سلام وكلام (6)
(1)
|
دواعي الاحترام |
ما من إنسان مهما ضؤل وتفه إلاّ وهو يستحق الاحترام في ناحية ما من نواحيه.. ودواعي الاحترام تختلف بذلك أيما اختلاف في نفس المحترم (بكسر الراء) وفي نفس المحترم -بفتحها- على السواء. |
على أن هناك أموراً يجب حسابها في هذا المجال، فالأخلاق منها ما هو مكتسب، ومنها ما هو موروث، والأشياء اللاصقة بالإنسان الجوهرية فيه غير الأشياء العارضة والطارئة التي تمكث ثم لا تلبث أن تزول بزوال أسبابها. |
فاحترام المرء من أجل ثروته، أو من أجل منصبه أمر واقع لا ريب فيه، ولكنه في عموم حالاته احترام غير طبيعي، وهو بذلك غير مضمون ولا دائم.. فمتى ما افتقر أو أقصي عن منصبه أصبح ذلك الاحترام كأن لم يكن بالأمس. |
واحترام الإنسان لعلمه أو أدبه أو أخلاقه الفاضلة أو شخصيته القوية أو المحبوبة أو لما يماثل ذلك من السمات الأصيلة في الإنسان! هو احترام دائم ملازم لا يتطرق إليه الشك والوهن بحال من الأحوال. |
ولا جرم أن الفارق بين هذا وذاك، هو فارق هام قاطع يستقيم على كل مقياس، وبه تتأثر وعنه تصدر كل عوامل التمييز والترجيح. |
وقبل مدة طويلة كنت أعرف، والناس يعرفون أيضاً، شخصاً كان يتولى مركزاً كبيراً في البلد، وكان أسعد إنسان، والفائز بكل حظ من يلتفت إليه نصف التفاتة ويمنحه ربع ابتسامة فيمتطي السحاب ثم لا يعود كالإمام الموعود كما تقول بعض الخرافات. |
ورماه الزمان بسهم مسدد، فانحدر.. وتدهور، وإني لأعرفه الآن نفس معرفتي به من قبل، يلاحق الناس بالسلام ويزعجهم بالكلام فينحاشون عنه ولا يلتفتون إليه انحياش الصحيح من الأجرب. |
وكثير من الناس يقولون لك: نحن أناس محترمون، وهم يعلمون في قرارة نفوسهم ما هي الأسباب المصطنعة الزائفة التي تمتحن الناس باحترامهم، حتى إذا عادوا إلى قواعدهم غير سالمين، رجعوا -عوداً على بدء- غير محترمين.. |
على أنهم في غمرة نشوتهم بالمنصب أو المال ينسون الحقائق فيذهبون في سدر أعمى لا يفيقون منه إلاّ على الصدمة الدهياء التي تسلبهم المال أو تبعدهم عن المنصب، فإذا هم غثاء كهذا الغثاء من أبناء آدم وحواء.. |
ولكن احترامنا -مثلاً- لذكاء إياس أو كرم حاتم أو شجاعة الأشتر
(2)
أو علم الإِمام علي -رضي الله عنه- وكل ما جرى هذا المجرى، وانتظم في هذا المسلك، هذا الاحترام هو الاحترام الطبيعي الصحيح الخالد الذي تطغى عليه ولا تتأثر به عوامل الزمان والمكان. |
سأحترمك لحلة أنيقة جديدة تجرر أذيالها
(3)
، ولكن متى ما خلعتها خلعت احترامي أنا بالتالي. |
وسأحترمك؛ لأنك حال بمال أنا عاطل منه، فمتى ما حالت بك الحال.. فكذاك. |
ولأن أحد أموري مرتبط بك وليس عنك متنكب فسأرغم على احترامك بحسب ذلك.. |
تداعت هذه الخواطر في نفسي بلا نظام؛ لأن أحد الأثرياء الصغار قال لي قبل أيام في غير مناسبة: أنا إنسان محترم! |
وقد رأيت أنا بالفعل بعضاً من الأسباب التي جعلته يبصق مثل هذه الكلمة المغرورة، ففي الدقائق التي اضطررت إلى مجالسته فيها جاءه عدة أشخاص يهنئونه على سلامة الوصول من مصر، وأنه أوحشهم شوقاً، وكان أحدهم يريد أن يدعوه، والثاني يريد أن يُسارَّه بشيء، والآخر يسرد عليه حكايات وقعت في حالة غيابه. |
ومنهم شيخ كبير متهافت في السن والجسم يتنقل الموت من عينه اليمنى إلى عينه اليسرى، ومع ذلك فقد طفق يتصابى ويمازحه، ويقول له: لقد كان أبوك -مساه الله بالخير- عندنا هنا في رمضان، وكان يفعل كيت ويقول ذيت! وظل يمدحه ويدعو له بطول البقاء! |
ولذلك لم أفاجأ عندما انتفخ ومال إلي وقال: يا أخ حسين أنا إنسان محترم.. ولا لزوم للمناسبة هنا حدثت أم لم تحدث.. ولكن اللزوم أني أنا بالنسبة إليه، وبالنظر إلى الأسباب المعتبرة عنده، لم أكن حقاً إنساناً محترماً. |
فقد توفرت له دواعي الاحترام والسلام. |
|