سلام وكلام (3)
(1)
|
القراءة والكتابة
(2)
|
يبدو لي أن أول من اخترع الحروف أو الرموز، وجعلها وسيلة للتفاهم كان فارغاً جداً، كان تافه المحصول بادئ العي، وإلاّ ما احتاج مع لسانه ويده وصوته إلى مثل هذا الاختراع؛ بل كان غالباً أميل إلى الهزل منه إلى الجد، وكان يتمتع بنفس خفراء بسيطة، ولا يريد في بادئ الأمر إلاّ مجرد التسلية والعبث، ولم يكن يتصور أن هذه اللعبة التي ألقى بها ستؤدي إلى هذه النتائج الخطيرة أحياناً، والحقيرة أحياناً أخرى! |
ولم يكن يقدر بحال أن مثل هذه الوسيلة الهزيلة للتفاهم -والمضحكة أحياناً- ستجعل كثيراً من الشعوب والبلدان يحاربونها بالسيوف والرماح فيما مضى، وبالآلات المدمرة الحديثة فيما بعد، وأنها ستقلق كل وساد، وستهز كل مهاد، وستأتي بما لا يسعه خيال مبتكرها مهما اتسعت آفاقه! |
وقد كانت اللغة يسيرة بسيطة فيما سلف من التاريخ.. كانت عشرات من الكلمات اصطلح عليها، تؤازرها للإبانة والإفصاح أصوات من الحلق، ونظرات من العين، وإشارات باليد، وكانت لا تعدو الأشياء الضرورية للإنسان فيما [يعبَّر]
(3)
به عن الأكل والشرب والنوم والصيد، وكان من حسن حظ الإنسان في فجر ميلاده أنه لا يعرف متاعب الترف الروحي والقلق الذهني، فلم يكن هناك من السخافات ما يسمى فنوناً وآداباً وعلوماً، وما يتسع [له]
(4)
هذا النطاق من لغو وفضول. |
ولا مراء في أن الإنسان الذي اصطنع الحروف أو الرموز كان على جانب من الخبث وسوء النية، وإن لم يكن يقصد ذلك، ولا نشك أيضاً في أنه كان أذكى عشيرته على الإطلاق، وكان أسرع إلى تفتح الذهن منهم، وقد أمضه من قومه وأرهقه ما يلقاه من بلادتهم وكثافة طبائعهم وتلدد أفهامهم، وقد بح صوته ودمى لسانه وتقطعت حماليقه، وأصبحت الكلمات القليلة التي كانوا يتفاهمون بها أعصى من أن تشير إلى مدلول، أو تعبر عن معنى، وما تزال الكلمات لا تدل إلاّ على عكس ما تشير إليه حتى اليوم. |
وهذا الإنسان العجيب الخفيف الشمائل استطاع أن يؤرق جفنه ليالي عدة، وأعمل تفكيره البدائي، والذي كان مع بداءته يعتبر أرقى تفكير في عصره، حتى أصبح في طوقه أن يوجد هذه الطلاسم، فإذا حلت معمياتها، فإذا هي أصوات، وإذا الأصوات لها دلالات مختلفة المعاني ميسورة الأداء، وفيها الغناء كل الغناء. |
ترى من يكون هذا الإنسان؟ ومن أي قبيل هو، وفي أي عصر وجد؟ وبأي لغة قديمة سجلت هذه الحروف، وكان لها السبق على كل لغة أخرى في تخليد نفسها بهذه الوسيلة الجديدة؟ |
ونحن لا يعنينا هنا أفينيقيا أم آشور أم الكلدان أم غيرهم يدعي ذلك، فقد اختلف العلماء في هذا كشأنهم اختلافاً في صغائر الأمور وكبائرها على السواء. |
وستجد في دوائر المعارف خلطاً كثيراً متضارباً عن الخطوط الهيروغليفية والمسمارية والمسند، وأشكالها وأيها أقدم وأقصد في الدلالة وأبلغ في الأداء. |
على أن قصة الكتابة والقراءة لا تنتهي عند هذا الحد، وأحسبها لن تنتهي أبداً، فالظاهر أن هذا النداء البشري دوى جداً وارتفع ضجيجه وعجيجه حتى بلغ السماء وطال عليه الأمد، ولا بد أن هناك رسائل تدور عندئذ بين الناس، وهناك أشياء من الطين أو الحجر يُخلِّدون عليها أعمالهم بالنقش والكتابة والحفر. |
لكن الأمر لم يطل كثيراً فاستجاب الله عز وجل إلى ذلك النداء البشري العجيب الذي كان في تلك العصور يشبه إلى حد ما حادثة اكتشاف (الذرة) اليوم. |
وحينئذ نزلت الكتب السماوية المقدسة على فترات، فمنها صحف إبراهيم، وزبور داود، ثم توراة موسى، وإنجيل عيسى عليهم جميعاً السلام، ثم اختتمت كتب السماء بالذكر الحكيم والقرآن الكريم لمولانا ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم. |
هذه الكتب بلا مراء هي خير ما يقرأ ويفيد في كل زمان ومكان
(5)
، وكانت استجابة السماء لهذه النزعة الفردية الإنسانية من أعجب وأروع ما حدث في تلك الأحقاب الغابرة. |
|