شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سلام وكلام (2) (1)
الموت
يتوهم كثير من الناس أن التفكير في الموت أو ادكاره دائماً يبعث الذعر في النفس، أو يسلط السوداء، أو يتحف بالقلق والألم، وهذا محتمل عند بعضهم، ولكنه غير صحيح ولا واقعي في الجملة!
وقد طفقت منذ سنوات قلائل أفكر في الموت دائماً، وأستعرض وقائعه في الناس، بل حتى في الذر والخنافس والفراشات وسائر الأحياء، ولكن لم أستشعر أدنى خوف، ولم يغلب علي أقل تشاؤم أو كدر، حتى لأصبح لدي عادياً من طول ألفتي له وإدماني عليه، وتندر الساعة أو الحالة التي لا أفكر فيها بالموت ولو عرضاً.
ولقد رأيت مرة فراشة حلوة الرفيف مرحة تهافتت بسرعة، فإذا هي تحترق في ذبالة المصباح، فدخل الموت حتى في أوردتي وشراييني وكل مسام جلدي من فرط وطول استذكار الموت إلى ساعات عديدة أكثر -ربما بل مؤكداً- من التفكير في موت إنسان!
فجم غفير من الناس مهمتهم الوحيدة في الحياة هي تضييق السبل، وإغلاء الأسعار، واستهلاك الأقوات، وعبادة المال، فهؤلاء لو ماتوا، لما كان في إحساسي أي تأثر مطلقاً بموتهم، قدر ما تأثرت من مصرع هذه الفراشة الجميلة الوديعة التي عاشت تلك اللحظات القصار، ثم كان مصيرها الاحتراق.
والحياة والموت يذكران بالاقتران دائماً مثل: الغنى والفقر، والعدل والجور، والعلو والسفول، والاقتران لا يكون للمشابهة ولا للمناقضة ولا للملازمة، ولكنه يختلف باختلاف طبيعة الشيئين المقترنين، فاقتران الحياة والموت مثلاً راجع إلى أن الحياة بداية والموت نهاية لتلك البداية وأن كل نفس (حية) ذائقة الموت.
ولا يمكن تصور حياة بلا موت في هذه الدنيا، كما أنه لا يجوز في الذهن احتمال وقوع موت في غير شيء حي معنوياً كان أو مادياً، إذ لا يصح حدوث الموت في الحالات العدمية.
وتفكيري الشخصي في الموت فردي غير متأثر بتعجل الموت أو تريثه أو تمنيه أو استهواله أو حتى ارتقابه، إنه تفكير سلبي على التقريب، نظرة عامة في شيء مألوف، تأمل في حركة عادية، استبطان لمسألة ثابتة مقررة مفروغ منها، أو ما شئت من ضروب هذه التعبيرات واختلاف صيغها وعباراتها!
بل لقد بلغ بي الأمر أني أصبحت أفكر فيه وأنا أضحك وأمشي وأقعد وآكل وأشرب وأتحدث وأكتب وأقرأ، ولا تتباين مواقع هذه الحالات من نفسي بالتفكير فيه أو بتمثله أو بدورانه في خلدي على الدوام.
وليس الموت عملية هدم مطلقة، فإن الحمقى هم الذين يظنون ذلك، إنه عملية بناء لسلالات جديدة، وعملية إحياء لأسماء وأذكار أخرى، بل إنه في الوقت نفسه عملية استمرار مع التحول الذي لا بد منه، ولا معاد بدونه.
وقد فلسف الموت كثير من الشعراء والعلماء وغيرهم، ومن أحسن من فلسفه في الأدب العربي المتنبي العظيم في هذه الأبيات الثلاثة من قصيدة رثاء لأحد غلمان سيف الدولة فيما أتذكر:
سُبقنا إلى الدنيا، فلو عاش أهلها
منعنا بها من جيئة وذهوبِ
تملّكها الآتي تملك سالبٍ
وفارقها الماضي فراق سليبِ
ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبر الفتى.. لولا لقاءُ شعوبِ (2)
وهي على إيجازها غنية عن الوصف في حسنها وبراعتها وعمقها وصدق الاستنباط الذهني فيها.
ومفهوم بطبيعة الحال أني أقصد في هذا المقال الموت المعروف الذي هو (تعطل عمليات الحياة نهائياً)، ولا أريده -ولا من بعيد- صنوفاً معنوية من الموت يدركها الناس ويعرفونها مثل: البلادة والركود والخمول والجهالة، وبطلان الشعور، وفقدان الضمير وغيرها، فإن شكول الموت هذه لا آخر لها، كما أنها إذا استفحلت لا برء منها؛ ولذلك سميت موتاً بحق.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :253  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج