شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
مناوشات ومناقشات (4) (1)
الحزن:
أنا أميل بطبعي إلى المعاني الحزينة، لا أدري لماذا؟ ولكن الذي أدريه أنه لا يتصل بأغوار النفس وينفذ إلى ما وراءها إلاّ الحزن؛ ولهذا تراه أعم بين الناس وأعلق بالنفوس، وأرجح في ميزان الحياة مما سواه من الصفات الأخرى، فهذه كارثة الموت تجتاح الملايين من البشر كل يوم غير الأمراض التي تعتور الأجساد والآلام التي تعذب الأرواح، هذا المثال القريب يوضح لنا أنه لا يوجد نفس ولا قلب منذ الأزل إلى الأبد لم يصهرهما الحزن في بوتقته، وللحزن لذة لست أدري كيف أصفها؟ ولكن المحزون يأنس بها كما يأنس الجذلان بجذله، ويتمسك بها كما يتمسك المؤمن بالعروة الوثقى لا يبغي بها بديلاً ولا يرتاح إلى غيرها.
ولعلّ الحزن يمكن أن يكون -إذا حللنا- وراثة محضة، فالإنسان الأول أو أبونا "آدم" كما ينبغي أن نسميه -لازمه الحزن منذ أن أغلقت أبواب الجنة في وجهه ثم ازداد حزناً يوم قُتل ابنه هابيل بيد ابنه الآخر قابيل، ثم تناهت أحزانه يوم فارقته زوجه إلى عالم البقاء فاستعاض عن كل شيء بالصلاة ودعاء ربه والتبتل إليه حتى لقي الله راضياً مرضياً بعدما شارك أبناءه في السراء والضراء، فتوارث أبناؤه الحزن فيما توارثوه من أبيهم متسلسلاً من صلبه إلى آخر إنسان ينفخ على رأسه الصور.
وبعد، فما نريد أن نتفلسف في الحزن ونبحث في أسبابه ونحلله إلى الأصول التي ينتج منها ويعلل بها؛ لأن هذا يستهلك آخر نقطة من الدماغ، ويستنفد كل جهد عظيم؛ لكنا نريد أن نقول: إنه يوجد كتيب صغير يسمى "نفسيات متألم" لكاتب مصري يدعى "أسعد حنا" ترجم فيه مؤلفه قطعة حزينة "لشكسبير" بعنوان "الموت" نثراً؛ فراقت لي معانيها الشاكية، وطابت لي اللهجة البائسة التي تتردد في ثناياها كأنها همسة المحتضر، فرأيت أن أنظمها منذ خمسة أعوام محتفظاً بقدر الإمكان بأسلوبها الحرفي، وسأوافي القرّاء بها في العدد المقبل إن شاء الله.
الكلمة الأخيرة:
اغتاظ حاطب الليل (2) ؛ لأني أثنيت على عبد القدوس وتركته هو جانباً، وحمل هذا محمل أن الإنسان لا يمدح واحداً إلاّ وهو يذم الثاني من جهة أخرى، وليس هذا التأويل الغريب بجديد منه فقد تعودنا منه قبل ذلك تأويلات مضحكة فيها العجب العاجب؛ ومحل الغرابة هنا أنه كان يتوقع مني أن أثني عليه أو أعترف بمقدرته الموهومة، وهذا دليل على تغفيل محض، فالفرق بين أسلوب عبد القدوس الأنصاري وبين أسلوبه في كلا الردين كالفرق بين مثقف يكتب بلغة عالية نزيهة وآخر عامي يكتب بلغة السفلة والرعاع؛ وإذا أردت برهاناً فانظر هل ترى في رد الأول تحاملاً فظيعاً تنم عنه مثل هذه الكلمات (إبطال قاعدة أساسية في الإسلام؛ ورد على الحديث النبوي الصحيح، وذم للمحافظ على دينه، ومصادمة القرآن المجيد) إلى غير هذا من تحميل للفظ ما لا يتحمله لا في ظاهر المعنى ولا في باطنه، ثم يستأنف أخيراً حملته فيعتام من القاموس ألفاظاً ساقطة كالنزق والعجز والسخافة والمزالق والدناءة والانحطاط والضلال والاستهزاء بالحق والإثم والشرك، وسواها مما يدل على براعته الفائقة في استظهار رذل الكلام وهجر القول (3) .
نعم هذه أمثلة بينة على اعتداله الذي أشهد عليه القراء كأن القراء ببغاوات تنطق ولا تفهم، ألا فليعلم حاطب الليل أن في استطاعتي بأهون وسيلة أن أستقي من القاموس مئات من كلمات السباب والقذف والتمحل فأرميه بها كما رماني؛ ولكني أترفع بنفسي من الانحطاط إلى ذلك الحضيض الأوهد الذي اختاره لنفسه وفضَّله على سواه.
ولعلّ من حق القرّاء علي أن أصارحهم بأني كنت قد هيأت من قبل رداً تحليلياً لمناقشته وما كان هذا يعوزني أو يصعب علي، ومناقشته كلها من ألفها إلى يائها كالبناء على الماء لا يلبث أن ينهار وشيكاً، بيد أني لما رأيت مقاله يتكوّن من مجموعة مغالطات ومهازل فيها تسلية للقرّاء وفيها ترويح للنفس آثرت أن أتركها كما هي وأتناوله من جانب آخر قال عنه هو: إنه تهكم، فليكن كما قال وليكن خلاف ذلك، ولقد ثبت لديه أخيراً أني نزق؛ لأني لم أعترف بتفوقه ولم أصوبه في آرائه ولم أثن عليه الثناء الواجب لحضرته، ولو فعلت هذا لكنت عنده على العكس عاقلاً فاضلاً، فلينظر القرّاء كيف تتحكم شهوة النفس في الإنسان فتعميه عن الصراط القويم، وتأخذ بناصيته إلى الضلال المردي؟!
وما أظن أن هناك حرجاً على من يضحك من منظر يثير الضحك أو يستخف بمن يستحق الاستخفاف، فقد برز إلى الميدان على حسابي فكان أضحوكة القراء كلهم لا أنا وحدي، فعليه أن يعاقبنا جميعاً على الضحك والاستخفاف بتلك الفأس التي لا تبقي ولا تذر على شجر أو حجر.
ولست أعتبره نداً لي حتى أهتم به أو أسهر من أجله الليالي الطوال في تبييض الردود والمناقشات، وتالله ما مثلت معه دور الجاد المتحدي قط، وإنما أداعبه مداعبة خفيفة تضحك القراء وتجعل منه معيناً لا ينضب للتفكه والاسترواح، ولا أدل على هذا من أني لم أناقشه في أي بهتان قذفني به أو أثاره علي، فليَصُل في ميدانه الضيق، وليَجُل مثل ذلك الفارس الإسباني الخيالي (دون كيشوت) الذي يقصم رقاب الغنم الضعاف حاسباً أنه يفلق هامات الكماة المغاوير.
ويظهر أنه كتب رده الأخير تحت تأثير نوبة عصبية حادة، فإن التأثر والانفعال ليبدوان في تضاعيف أسلوبه كأشد ما يكونان من الوضوح والجلاء، فليتبع مقالاته بعضها ببعض، وليوالي نشر مناقشاته وردوده واستدراكاته، فليس له عندنا غير هذه الكلمة الأخيرة، فما ينفع النفخ في الرماد، ولا يفيد التكلم مع الجماد، ورحم الله أبا الطيب المتنبي يوم يقول هذا البيت الحكيم الذي أرسله مثلاً عالياً من أعماق القرون، وكأنه يشير به إلى هذا (الحاطب المحطوب).
وكم من عائبٍ قولاً صحيحاً
وآفته من الفهم السقيمِ (4)
 
طباعة

تعليق

 القراءات :388  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 4 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج