حلم غريب!!
(1)
|
كان "رشاد" فتى واسع أفق النفس مختلف مناحي التفكير على جانب حسن من الثقافة، وكان قد جاوز الثلاثين. وفيه حياء وفكاهة، وهو -بعد- عزب، وإن يكن يحب النساء كما يحبهن كل رجل، ولكن على بعد وتخوف. وجاء يوماً فرأى امرأة عند بزاز حلوة كالشهد المشتار، مونقة كالروضة المعطار، وغلب عليه حياؤه فلم يرفع نظره إليها بعد المرة الأولى، غير أن صورتها ظلت راسخة الجذور في ذهنه.. وذهبت المرأة. |
وعاد رشاد بعدها إلى داره وهو مشغول البال وأوى إلى فراشه، وكان متعباً مكدوداً، فرأى في ما يرى النائم أنه انقلب بقدرة الله إلى أذن حمار -لا حماراً كاملاً- بل أذناً فقط، ولكن هذه الأذن اجتمعت فيها كل غرائز الحمار وأحاسيسه وبهيميته، وخيل إليه أن هذا الحمار الذي أصبح رشاد أذناً له لا يمكن أن يسير ولا يهتدي إلاّ بإلهام هذه الأذن العجيبة، فقد تركز فيها كل شيء مما يتعلق بالحمارية وشياتها ومزاياها الفائقة. |
ولكن الحمار حمار عنيد شموس، فربما كاد أن يتردى في حفرة، فتلهمه هذه الأذن المتواضعة من غلوائه وخيلائه. والحمارية -بعد- ليست بالشيء السهل وإن كان الكثيرون يتوهمون أنها كذلك؛ فهي مرتبة من مراتب الحيوانية، فوقها كثير ودونها كثير، ولها طابعها الخاص وسماتها اللازمة، وفوق إحساس هذه الأذن بما ينبغي للحمار وما لا ينبغي، فقد كان لها إحساس خاص بها دال عليها، فكأنها مرتبطة بالحمار ومنفردة في آن! |
وكانت هذه الأذن -أي رشاد- كأذن أي حمار آخر، فيها الطول والمرونة وسرعة الحركة؛ فقد ترتفع عندما تستشرف شيئاً، وقد تسبطر، وقد تتدلى عندما تشعر بفتور واسترخاء، ولكن رشاداً كان من نفسه في شغل دائب وشعور مستمر وعجب لا مزيد عليه. |
واستغرب رشاد كيف استطاع أن يرتفع إلى هذه المنزلة الرئيسية، وهو جزء ضئيل من كل عظيم؛ فلم يكن دماغاً حتى يدير الفكر، ولا قلباً حتى يوزع الدم ويزخر بالإحساس ولا نفساً تشعر وتتدبر، ولا مركزاً جامعاً للأعصاب حتى يتحكم في سائر الجسد بما يجب.. والأذن -أي أذن- تافهة حيث كانت إلاّ في ما تؤدي في وظيفتها الخاصة.. فما باله تتجمع في يده كل الوسائل والمواهب والملكات التي يدير بها هذا الحمار الفاره الكبير، في حين أنه لم يتجاوز كونه أذناً فقط؟ تلك أذن لا مثيل لها بين لداتها من آذان الحمير ولا من آذان المخلوقات الأخرى. |
وخطرت حمارة جميلة، فارتفعت الأذن على شكل عمودي غريب، وأخذت تطل وتعجب وتطرب، وكانت الحمارة تزداد تأطراً وتخطراً كأنها تلك الأتان التي ورد ذكرها في شعر بشار بن برد، فابتسمت الأذن أو ابتسم رشاد ابتساماً لائقاً بتلك الحمارة المهفهفة الغيداء. |
ولكن الحمارة لم تلبث أن شردت، وانتبه رشاد من نومه، وهو شخص سوي لا أذن حمار ولم يبلغ أن يكون حماراً كاملاً، واستضحك بين اليقظة والمنام وقال: أذن حمار؟ حتى في الأحلام لا يمكن أن أكون شيئاً تاماً.. وأصبح ووجد يده تأكله على أذنيه، فهو يطيل لمسهما، ويتحسس عليهما، ويعبث بهما.. أكان يخشى أن تنقلب أذناه أذني حمار؟ |
وكان هناك شيخ جليل اشتهر بتعبير الأحلام كأنه ابن سيرين فذهب إليه، وهو يضحك آونة ويقطب أخرى، ولا يعلم ماذا يخبؤه له القدر، وود لو يرى غايته قبل مذهبه كما كان ابن الرومي يود.. وسرد على الشيخ قصته فضحك الشيخ وأغرب في الضحك وأبدع وقال: اذهب، فإنك ستتزوج على رغم أنفك! وطاب رشاد نفساً وقال: هذا هين.. أما لو عُبّر الحلم بغير ذلك؟ |
وتزوج رشاد في ظروف لا يملك معها دفعاً ولا منعاً وأنجب أكثر من خمسة بين ذكور وإناث، وقر عيناً بعد ذلك، فإنه لم يعد أذن حمار، ولم يقنع كذلك بأن يكون حماراً كاملاً.. ولكنه أمسى.. اصطبلاً للحمير!؟ |
وحدَّث صديقه حامداً بكل ما حدث، وكان حامد ساخراً عياراً، فطفق كلما قابله جعل من يديه كهيئة أذني الحمار وقد تدلتا إلى أسفل، فكان رشاد يجيبه بنهقة أو نهقتين إيغالاً منه في العبث وزيادة في الطنز، فيقول له حامد: |
كلا يا رشاد. إنك لم تبلغ في حلمك أن تكون حماراً كاملاً، ولكنك كنت أذناً فقط، وأنى للأذن وحدها أن تنهق؟! فيضحك رشاد، ويقول متحسراً: ليتك يا حامد كنت الحمار الذي أنا أذنه، ويأخذان في التندر والمجون. |
|