شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
العودة (1)
مكث خليل الرياحي حقبة من الدهر، وهو شيخ الأدباء في وطنه، وكان -وهذا لا يمتري فيه اثنان- جريء الاتجاه والنزعة، حلو الأسلوب، ولم يكن يخلو من فكاهة مرحة في ثنايا كتاباته التي ينشرها في الصحف المحلية، ولم يوصم -في يوم من الأيام- بضعف في نفسه أو خور في عزيمته؛ ولهذا لم تلن شكيمته لأحداث الزمان التي أوجبت -في ما يجب على الكاتب- أن يطأطئ من هامته، أو يضاعف في ملقه، أو يتخلى عن كرامته.
كان صلب القناة، منفرد المذهب بين أدباء طبقته، وكان لا يكتب إلاّ ما يعتقده حقاً لا مراء فيه.. وعلى أنه كاد يعتقد في قرارة نفسه أن الحق في هذه الدنيا قليل ومشوب، وهو -على قلته وشوبه- لا يكاد يبين إلاّ بعد جهد جهيد.. إلاّ أنه كان ينزع نزعة واقعية، فيكتب على أساس هذه النزعة التي إن خانها التصحيح، فلن يخونها الإيضاح على الأقل.
ولم يكن يجيد أي لغة غير لغته، ولا يحب كذلك أن يخدع نفسه، فيزعم أنه من أئمة هذه اللغة، فيذهب في التخطي والتصويب إلى حد الثقل والغثاثة.
وكان على مرحه وسخره في كتاباته يخفي في نفسه طوائف من الأحزان والآلام لا يبيح سرها لأحد من خلطائه، ولهذا قيل عنه -عند البعض- إنه ليس له جو يمتاز به، وإن محضره يتسم بشيء من الثقل -أحياناً- أو الذهول والاستغراق.
والذين يستطيعون دراسة نفسية الإِنسان دراسة مستفيضة وافية، لم يخلقوا بعد، والذين يروق لهم ادعاء ذلك إنما يدرسون جانباً أو جانبين، ويحسبون أنهم قد أوفوا بذلك على الغاية، وشارفوا النهاية.. وما يشك خليل الرياحي في أن ادعاءهم يشرف أحياناً، ولكن يميت من الضحك عندما يريدون في هذا الادعاء أن يستحوذوا على قصبات الشرف بأجمعها. على أن خليلاً هذا لم يكن يذهب مذهب الغرور في نفسه، ولم تكن فيه أي سمة من سمات "الدون كيشوتية الأدبية" التي تفاقم داؤها واستفحل شرها في الأدباء.
وفي وسع كل إنسان أن يجعل من نفسه بطلاً -ولكن في نفسه فقط- وإلاّ فإن عليه أن يبحث عن أولئك البلهاء الذين ينظرون إليه نفس النظرة التي ينظر بها إلى نفسه.
وقد دفع خليل ضريبة شهرته الأدبية، فكانت تنسج حوله دائماً هالة واسعة من التهم، وتتطاير حول اسمه الأقاويل والإشاعات.. وكان لا يحاول أبداً أن يدفعها أو ينكرها، بل كان يتجاهلها، ولا يعنيه أمرها كما لو كان غيره المتهم الموصوم، ورحبت آفاق نفس خليل إلى حد أنه انفرد بمقاييس جديدة غريبة في الأخلاق والمعاملات يعمل بها بينه وبين نفسه، وإن كان لا يحاول أن يشيعها بين الناس أو يطبقها عليهم.
ولعلّ أغرب ما في أمره أنه يجمع بين طرفي البداوة والحضارة، ولا يبالي أيهما عاش فيه. وكان المجتمع الذي يعيش فيه مجتمعاً مضطرباً مواراً بالمتناقضات والمفارقات، ولا فائدة من محاولة إصلاحه أو التسامي به أو توجيهه إلى غاية رفيعة.
وأصبحت نفسه في يوم من الأيام تقطر مرارة واجتاحه السأم من كل شيء، وأمسى يحمل قلبه في صدره كما يحمل جلموداً كبيراً من الصخر القاسي؛ فقرر أن يعيش في البادية، يحمل ويظعن بسوامه وأهله بين الأحياء المتنقلة، وفعل بلا تردد.
* * *
كتبت عنه الصحف، وبحث عنه الأدباء، وفزع أصدقاؤه، استقصوا وألحوا في السؤال؛ ولكنهم لم يجدوا له أثراً، ولم يعرفوا له خبراً، فما لبث أن خفتت الضجة حوله كما تخفت الضجة حول كل شيء في هذه الدنيا، وانبرى بعض الأدباء ممن يمتازون بخصب الخيال وتحليقه، فكتب عنه المقالات المحبرة في تأبينه وتحليله، وساد بينهم الرأي القاطع بأنه قد مات، وانتهى أمره!
* * *
بعد خمس عشرة سنة، عاد خليل إلى بلده، وقد جلله وقار الشيخوخة، وابيض شعره، وازداد خبرة بين دهره، ولكنه ازداد أيضاً سخره بكل ما تحرص عليه الحياة وتسمه بميسم النفاسة والخلود.. ورؤي مرة أو مرات فتهامس الناس، ولم يصدقوا أعينهم، وسرت الإشاعة بينهم، ثم أصبحت حقيقة لا غبار عليها، كما تنقلب كثير من الإِشاعات إلى حقائق بمجرد تداولها وانطلاق الألسن بها وترديدها.
واختلط به صديق أو صديقان من صفوة أصدقائه القدامى، فرأوا عجباً، تغير منظراً ومخبراً، وترادفت في لهجته بعض الألفاظ البدوية.
وقرر الأدباء أخيراً أن يقيموا له حفلة ليكون فيها خطيبها الفرد، فلم يمانع فقد زوَّر في نفسه الكلام الذي سيقوله والذي سيخيب به جميع الآمال المنوطة بأدبه وعلمه وسخره.
وكانت حفلة مؤنقة جامعة بين كثيرين من سراة القوم وجلّة الأدباء، ووقف على المنصة، وابتدأ خطبته بضحكة مجلجلة، ثم قال وهو يبتسم:
كل شيء في الدنيا يغري بالضحك حتى البكاء، وقد لا تصدقون، ولكن ألا ترون أنا نضحك دائماً عندما نرى الأطفال يتشاجرون ويبكي بعضهم بعضاً ولا شيء في الدنيا أغلى من دموع الطفل أو أخلد أثراً أو أجمل وقعاً؟ فلماذا نضحك عندئذ؟ إننا نضحك، لأننا نتوهم -نحن الكتّاب- أنا أرزن وأعقل وأحكم، فبالله ما رأيكم في الرزانة والعقل والحكمة التي تضحك من بكاء الطفل؟ وكل الناس الذين يضحكون من أحداث الحياة، إنما يضحكون، لأنهم يريدون أن يخدعوا أنفسهم بأنهم فوق هذه الأحداث، ولكنا لو رأينا قلوبهم لوجدناها تكاد تعتصر من الحزن المرير.. فما هذا الإنسان المغرور أيها السادة الذي يخيل إليه أنه سيد البسيطة؟
سيقول الجاهلون: إن الإنسان هو أنا وأنت وأنتم وما تحتويه هذه الضمائر السخيفة، ولكن الإنسان الصحيح لم يعش -بعد- في نفوسنا المريضة المغرورة ولا يمكن أن يعيش أبداً.
وكل إنسان أو "متأنسن" إنما يعيش بمطامعه وآرابه وعداواته وصداقاته ولذاته، وهذه الفضلات لا يمكن أن يحيا بها أو يستميت في سبيلها أو يكتفي بها إلاّ الإنسان "الناقص"، ولن يكون الإنسان إنساناً إلاّ إذا بلغ المرتبة الكاملة التي يستطيع بها أن يكون جوهراً خالصاً وكيف يمكنه هذا؟ وهو يعيش على تلك السخافات التي اختلطت بها طينته وامتزج بها تركيبه، فليس له عنها معدى. وإذاً فيجب أن نضحك، نضحك فقط من أنفسنا التي تحاول أن تتبلور فإذا هي تتحجر، وتريد أن تتسامى، فإذا هي في قرارة الحضيض، وإذا ضحكنا من أنفسنا أولاً، أغنانا ذلك وكفانا عن الضحك على سوانا، ولكن أين الإِنسان المثالي الذي يضحك من نفسه ويسخر بنفسه قبل أن يتنفج ويتعالى فيضحك على غيره؟ إن كل امرئ منا يحاول سد الفراغ في نفسه وتعويضها عن نقصها المركب بالتهكم على غيره، واصطناع الضحك المزيف على نقائص الحياة، ونقائص الحياة؛ صحيحة في الحياة، لأنها آتية من نقائص الإِنسان نفسه، فكيف يطمع أن تكون الحياة كاملة، وهو بنفسه سبب نقصها وسر علتها.
وضحك خليل ضحكة مدوية، ونزل وغاب بين الجماهير المأخوذة الذاهلة، ولا يعرف إلى الآن أين ذهب، ولا يعلم الناس كذلك هل كان خليل يضحك من نفسه، أم يضحك من الجمهور الذي احتفل به ذلك الاحتفال العجيب؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :466  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 130 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.