شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
هكذا كان (1) ..!!
كان مسفر من أظرف الشخصيات الموجودة في أبها، وكان سريع البادرة مليح النادرة، وإن كان شيخاً [هرماً] (2) متحطماً، ويصح أن تسميه مخضرماً "وإن لم يكن شاعراً"؛ لأنه أدرك عهد الأتراك في عسير، وأحبه الوالي التركي واستلطفه وليس في وجهه من جديد، إن جد في وجه الإنسان شيء غير جبينه وعينيه وخديه، وأنفه وفمه وذقنه.. ولو اعتيد أن يجدَّ في وجه امرئ شيء لكان مسفر خليقاً بذلك؛ فهو مسيح الوجه حامده، ليس في عينيه تعبير، ولا في ملامحه شية من تصوير تبرز ما يختلف عليه ويعتلج في نفسه من عواطف وغرائز.
بيد أنه إذا تكلم أو أشار أو تحرك رأيت كل ما فيه يستثير الضحك حتى أصابع رجليه. قال:
في عهد أحد ولاة الأتراك على عسير خطر لي -وأنا في قرية تبعد عن أبها مسافة طويلة- أن أعود إلى أبها بأسرع ما يمكن، ولم أجد لي حماراً، فركزت خنجري في وسطي، ومشيت على أقدامي في سواد ليلة ظلماء، وأدركني الفجر وقد حاذيت القبور التي تنتشر في "شمسان"، وهذه أبها على قيد خطوات، ولكن مسني بعض الإعياء، فعجت إلى قبر وجدته فاتحاً فاه يستعجل لقمته ليطبق فمه عليها، وربضت في القبر، إن الأرض لواسعة، ولكن هكذا كان.
مروا أهل الحمير والجمال الذين يحملون إلى أبها صادرات قراها من فواكه خضار وحبوب، ومن عادة أهل بلادنا -ولعلّها سنة- أن يسلموا على القبور إذا اجتازوا أبها، وهذا أحدهم يسوق أمامه خمسة من الحمير تنوء بأوقارها، وما زلنا في الغلس، والتفت إلى القبور وصاح قائلاً: السلام عليكم. -وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
خرجت هذه التحية من فمي بما يشبه الصراخ قبل أن أفكر فيها، قلتها هكذا ولم أقدر النتيجة العجيبة التي حدثت، فإن الحمَّار ما [إن] (3) سمع جواب سلامه حتى أطلق ساقيه للريح، وترك حميره، ويمم أبها لا يكاد يتمالك أقدامه ونفسه من الفزع العظيم، وقابله الناس، وراعهم اشتداده في العدو، وعدم استقرار طرفه على شيء، فصاح به صائح يسأله عما به.
فقال: لقد قامت القيامة، سمعت الموتى بأذني يردون علي السلام. وعجب الناس واستزادوه وألحوا في الإيضاح والبيان، ولكنه كان لا يعدو هذه الكلمات.
أجل لقد سمعت الموتى يردون علي سلامي، قامت القيامة يا ناس!
والتاث عقله، واختلط كلامه وطفق يردد هذا المعنى في صيغ مختلفة: سمعتهم.. سمعتهم يتكلمون بأذني هاتين.
وأصبح الناس في حيص بيص، وما حيص بيص، قال مسفر: أما أنا فقد نهضت واستقت الحمير أمامي وأدخلتها بيتي، وقلت لأهلي: كلوا واشربوا حتى نرى ماذا يكون بعد.
ولاحظ جيراننا هذه الحمير الموقرة التي أدخلتها بيتي، وكانوا يعلمون أني أفقر من أن أملك حماراً واحداً، فما بالك بخمسة عليها ما عليها.
وأخذ أهلي يقسمون على جيرانهم طرفاً من هذه الغنيمة الباردة، وأخذت أتوقع من أين يأتيني الخطر؟
وبلغ الوالي التركي كل شيء وأخذ يحقق ويدقق.. ألا تقوم القيامة إلاّ على هذا الرجل وحده؟
وعاد الرجل إلى عقله شيئاً فشيئاً، فأخبر الوالي بحميره وما كان معه.
وحدث ما خفت منه، فإن الحمير لا يمكن أن تخفى، وهي تقطع أيامها الجميلة في نهيق ورفس وكدم، واستدعاني الوالي، وكان تركياً ذكياً، وضحك، وقال:
هات القصة يا مسفر.
فلم يسعني إلاّ أن أخبره بما حدث، فضحك حتى كاد أن يموت؛ ورد الحمير إلى صاحبها، ودفع ما رزأته به من أحمالها، وبقي في الرجل بعض المس.
تالله لقد كان الوالي سمحاً كريماً.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :573  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 128 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

وحي الصحراء

[صفحة من الأدب العصري في الحجاز: 1983]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج