شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
رجل من الناس (1)
عرض وجيز لرواية ألفتها في العام الماضي بهذا الاسم، وهي تصوير حياة رجل سائح نقاد بعض التصوير، وقد جعلت الفصل الأخير منها مفتوحاً لأن بطلها وهو هذا "الرجل من الناس" لا يزال حياً يعيش مع الناس، فمن الظلم بلا ريب أن نميته قبل أن يميته الله.
* * *
لم يكن غريب البدات، شامس القياد، بل كان على العكس أنيس المعشر حلو الحديث، في عينيه لمعة قوية تستشف خفايا الأسرار، وعلى ابتسامته معنى التهكم اللاذع الذي لا يفصح عنه قاموس اللغة تمام الإفصاح.
كان يهوى الكمال في كل شيء؛ فالشيء الناقص مهما كان، لا يكبره ولا يراه خليقاً بالاهتمام، والسفاسف والصغائر من الأمور قد يخوض فيها وقد يتعلق بها حيناً، بيد أنه يهزأ بها في أعماق نفسه، ويحتقرها كل الاحتقار، وكثيراً ما يغرب في الضحك إذا رأى الناس يتكأكؤون لرؤية ممرور سقط في الطريق، ويقول: لماذا لا يتركون له حاله؟ فلعلّ هذه هي الساعة النادرة التي تصفو فيها نفسه ويجتمع شتات فكره! وكذلك يسخر من الباعة والمارة ودهماء الناس، إذا رآهم يشرئبون بأعناقهم ليروا عظيماً من العظماء هامسين بمثل قولهم: هذا فلان باشا رئيس مجلس الشيوخ، وهذا فلان بك الموسر المعروف. على أنه وإن كان يقرر أن كثيراً منهم يخسرون نظراتهم سدى في مثل هذه المواقف السخيفة، غير أنه يرى لهم عذراً؛ فربما أشار بالسلام وهم غافلون عنه، فيفطنون ويقفون لرد سلامه في إجلال واحترام.. وربما سقط منه شيء فيتزلف إليه أحدهم يرفعه إليه، فيمد له ذلك العظيم، أطراف أنامله ليأخذه منه هامساً بكلمة شكر غامضة!
ونشأ صاحبنا هذا بين أبوين يجودان عليه حيناً، ويمنعانه حيناً آخر، ولكنه جبل على الكرم أو التبذير -فكلاهما عنده بمعنى واحد- فهو لا يعرف لمسك المال معنى، ولا يجد إلى الحرص عليه سبيلاً، يفرّقه في لحظة في شيء وفي غير شيء ومن جراء هذا، تركبه أحياناً ديون تبلغ أكثر ما تبلغ مائة ريال وهي في نظره مبلغ عظيم لا تستطيع تسديده شركة "إليانس واستوتجرت" التأمينية، فإذا اهتم بها وثقلت عليه وأكلت من لحمه وشربت من دمه، ذهب إلى أبيه يستجديه، فيشيح عنه، ويروح إلى أمه يمتريها فتصرخ في وجهه غاضبة فيتراجع باكياً محزوناً، حتى تجود عليه الظروف بنفحة إلهية فيسدد ديونه ويقيم الأعياد ويلعب ويلهو..
ويأتيه من له عليهم حق النصح والإرشاد من أهله وولاة أمرهم فيلحونه على إسرافه، ويؤنبونه على تبذيره ويقولون له: ألم يظهر لك قلب مما قد مضى عليك من الفاقة والعوز، ألا تنتهي عن هذا العبث؟ فيصغي إليهم في سكون، ويحاورهم في لطف، ولكنهم يتغلبون عليه بالكثرة والصياح فيسكت عنهم، حتى إذا انفضوا من حوله طفق يتحسس قلبه في صدره متسائلاً:
أحقيقة أني أمشي مع الناس بلا قلب؟ حتى إذا أحس بدقاته وشعر بثقله اطمأن عليه وسخر منهم ورثى لجهله، وتعضه الأزمة بأنيابها، وتسحب عليه الفاقة ذيولها فيمد يده مسترفداً، أو مستقرضاً من هنا أو من هناك حتى ينصب وتعلق آماله بالخيبة وترجع يده صفراً، وحينئذ -نعم حينئذ- يعرف لباب الحقيقة ويسخر من نفسه ويرثي لجهله ويعتقد بحق وإيمان أن الذي لا يقدر المال ولا يدخره لا يمكن أن يكون له قلب.. ويتولع في شبابه بأشعار الشك والإلحاد وكتب أحرار الفكر ومؤلفات الفلاسفة، ويرى فيها غذاء قوياً للذهن المضطرب، ومتاعاً للعقل المفكر، حتى إذا تقدم به العمر عرف عن يقين أن الشك متعبة للفكر مغضبة للرب، وأن الإلحاد يزري بالإنسان العاقل ويذهب ببهائه؛ فهؤلاء الملحدون من الأزل إلى الأبد يحصيهم العد اليسير، ولكن المؤمنين لا عداد لهم، وحسبك بقلة الملحدين إخفاقاً وضلالاً، وبكثرة المؤمنين نجاحاً ورشداً، فيطمئن بعدئذ إلى دينه، ويتمسك بعقيدته، ويسأل الله إيماناً كإيمان العجائز على حد قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :555  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 127 من 182
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج