حياة ميت
(1)
|
... مشينا نشيع الفقيد صامتين خاشعين، وكان حاملوا النعش والسائرون معه لا يتجاوزون العشرة، ومع هذا فقد كان حاملوه مسرعين كأنهم التيار إذا انحدر في هاوية، أو يا ترى هل كان النعش هو الذي يسرع بهم؟ وصح علينا قول القائل في جنازة مسرعة: أتراهم سرقوها؟ ولكن الجبَّانة
(2)
بعيدة، والطريق وعر، والوقت ظهيرة، فكنا نرجو أن نضع هذا العبء الثقيل عن كواهلنا، وينطلق كل منا إلى داره فيأوي إليها ويستريح فيها. |
والتفت إلينا عبد حبشي قد شارف أرذل العمر فاحدودب ظهره، وغارت عيناه، واتضح لنا من ملامح وجهه التي تختلف بين العبوسة والطلاقة، ومن نظراته التي يرسلها في هدوء ونفاذ أنه بلى الحياة وعجم عودها وذاق حلوها ومرها، وكان هو الذي يقوم بأمر الجنازة ويهيئ لها شأنها، وكنا نراه بعد أن وارينا الميت التراب يذرف الدموع سخينة في غير صخب ولا انتحاب، ثم قال في سكينة وحسرة: |
رحمك الله وهو خير الراحمين، لقد كثر عارفوك ثم قلوا، فليتك تدري الآن أن أصحابك الألى رتعوا في بحبوحة من فضلك واستمرأوا أخلاف نعمتك وما شعروا بموتك، ولو شعروا لما أسفوا عليك ولا أبهوا لشأنك ولا ذكروك بخير، وليتك تدري كذلك أن الذين ساروا في جنازتك وودعوك حتى مقرك الأخير غرباء عنك لم ينالوا منك عارفة ولم تجر بينك وبينهم معرفة.. فنم يا مسكين، نم بين يدي رب لا يظلمك فتيلاً! |
فتأثرنا وأشفقنا؛ فمنا من جادت عيناه بمستهل الدمع، ومنا من اغرورقت فكفكفها بردنه أو بمنديله، ونظرنا إلى بعضنا وقلنا: من نعزي؟ فقال العبد: |
عزوني أيها الرفاق فمن أولى بالعزاء مني؟ فإنه سيدي ومحرري من نير الرق، نعم لقد كان كذلك! فتقبل عزاءنا بشكر خالص ودعوات صادقة ثم قال: |
أيها الرفاق الكرام: إن بيوتكم نائية، فلو عجتم معي إلى البيت، فابتردتم بقليل من الماء، واستجممتم من النصب، لكان ذلك خيراً لي ولكم. وقلنا: نعم. ووصلنا منزله، واقتعد كل منا كرسياً وثيراً، وكان منزله مؤثثاً تأثيثاً حسناً، والتفتنا إليه فعرف ما جال في خواطرنا وقال "كأنه يتمم قصة قد بدأ بها من قبل": |
مات أبوه وترك له ضياعاً وأموالاً في بعضها ما يسد عوزه طول حياته وما يزيد على ذلك، ولكن "إسماعيل" كان مبذراً بطبعه لاهياً بفطرته، وكان خير أوقاته عنده إذا جلس بين كأس دهاق ووتر عزاف ووجه جميل يُحيي مع ندمانه أول المساء بالغبوق، ويكلل جبين النهار بالصبوح.. ولامه العاذلون وعاتبه المخلصون، ولكن سمعه في صمم، وقلبه في شغل، فمضى على وتيرته سادراً لا يبالي بالمشقات ولا يحفل بالمحرمات، وقل ماله الذي في يده فباع ضيعة وأتبعها بثانية غير مرعوٍ ولا مفكر، ومضت سنوات معدودة ففتح عينيه فإذا ليس بين يديه غير بساطه الذي تحته، حتى الضياع والقصور باعها واكترى له غرفة أرضية صغيرة بقي فيها هذا البساط الممزق الذي ترونه مطوياً في هذا الركن.. ولقد وجدت في نفسي جرأة عليه في يوم من أيام سروره ولهوه فقلت له: |
سيدي.. أما آن لك أن تفكر؟ أحياة بهيمية تريد أن تحياها حتى تموت؟ أي عمل حسن سيذكره الناس لك؟ وأي أثر حميد سيخلده لك التاريخ في صفحاته؟! فصاح في وجهي قائلاً: |
أوه! وهل العيش يا سعيد إلاّ هذا؟ ليت شعري من يحيا هذه الحياة الرغيبة يشربها شمولاً بين وجوه حالية بالجمال وعيدان تنطق بالألحان، أيحتاج إلى حياة تأتي أو يأسف على شيء يفوت؟ |
فعلمت أن سبب لهوه ما زال ممدوداً، وأن نفسه لم ينبعث منها زاجرها بعد.. وأصابه مرض عقام من جراء إدمانه الشراب وانهماكه في اللذات فأعيا شفاؤه الأطباء النطاسيين، وكأن هذا المرض بث فيه روحاً جديدة فأقلع عن شهواته وهجر الخمر وانفرد بنفسه يناجي منها ماضيها ويعتبر بحاضرها ولا يرى في مستقبلها ما يبعث على التفاؤل أو الارتياح. وجاءه ذات يوم صديق له مخلص من الأطباء البارعين وقال له: |
اسمع يا إسماعيل: ليس في شفائك أمل، ولكن هذا الهم والشجن اللذين ينخران في جسمك ويذهبان بطلاقة روحك وانبساط محياك لماذا لا تطردهما عنك بجرعة تحسوها بين الفينة والفينة؟ فإن هذا الشراب أصبح متصلاً بحياتك فإن هجرته انفصمت عراها. |
فرفع رأسه من الوساد ونظر إليه من خلال عينين ينبعث منهما شعاع متألق يدل على توبة نصحت وسريرة صفت، وقال له في هدوء حزين: |
تقول يا صديقي إنه لم يعد هناك أي أمل في شفائي، وإني لموقن تماماً بصحة قولك، فلماذا لا تنصحني بالتوبة مما عملت والندم على ما أسلفت مستسلماً لمشيئة ربي، راجياً لمغفرته، متعلقاً بأهداب رحمته التي يسبغها على من يشاء من عباده، في حين أن الموت لم يبق بيني وبينه إلاّ خطوات معدودات.. تالله لو أعلم علم اليقين أن حياتي ستعود طويلة مستطابة وشبابي سيتجدد غضاً جميلاً إذا نهلت من هذه الكأس المترعة قطرة واحدة لما أسغتها في حلقي، ولفضلت لقاء ربي على هذه الحياة الممقوتة التي انتهت كما تنتهي حياة البهيمة لم تبق في الناس ظلالاً تستحق عليها الخلود والشكران. |
فبكي صديقه الطبيب وغشته سحابة من الأسى، ولما هم بالانصراف ودعه قائلاً: |
لنعم ما عملت أيها الأخ البر.. إن رحمة ربك وسعت كل شيء؛ ولو أن ربك لا يدخل جنته إلاّ من كان خليقاً بها بعمله الصالح واستقامته المثلى لأمست أبوابها موصدة في وجه كل واحد، ولكنه تباركت أسماؤه وتقدست كلماته غفور للمذنبين، مشفق على التوابين، رحيم بعباده المخلصين. |
* * * |
وراح "إسماعيل" في غيبوبة طويلة لازمته زهاء يومين كاملين ما رقأت لي فيه دمعة، ولا خمدت لي خلالهما جذوة من جذوات الحزن المرير.. ثم فتح فمه اليوم صباحاً ونطق بالكلمة الجامعة لمعاني الكمال الخالدة على مرور الأجيال "لا إله إلاّ الله محمد رسول الله"، ثم أطبق فمه على خير ما يطبق عليه فم من كلام حكيم، وأغمض عينيه برفق، ونام لهذا النوم العميق الذي ينتهي إليه كل ساهر، فعلمت أنه تمسك بحبل النجاة ورجوت له أن يصل شاطئ السلامة بنفس مطمئنة وأمل مكين. |
ثم سكت العبد "سعيد" هنيهة ورفع رأسه قائلاً وعيناه مغرورقتان: |
لقد اختفى إسماعيل وأسدلت من دونه الحجب، فترحموا عليه، واستغفروا له، واذكروه بخير ما يذكر به المسلم أخاه المسلم، فلا شيء أطهر لنفس الميت وأندى على قبره من دعوات الغرباء الأخيار. قلنا جميعاً: غفر الله له وتجاوز عن سيئاته. |
|