أحلام في النهار
(1)
|
كان الفصل الشتوي فيه نذير من برق ورعد، وكان القمر من أفقه الغربي في عاشرة من شهره يلوح كما لو كان يليح برداء أبيض، وبيني وبينه أجنحة العصافير، تتقلب بها تحت ضوء القمر فكأنها أخيلة فضية في عالم مسحور! |
وكنت أنا في نهار واضح من نفسي، فلم أحسب أي حساب للظلماء تأتي من الخارج.. ما دام أن هناك عيوناً كثاراً تُهَرْيِقُ الضوء الملون، بكل أشعته القزحية، وما فوق البنفسجية. |
ومع ذلك فقد كنت أحلم أو أدرس أحلاماً، اختلط فيه الغباء بالذكاء، وسطعت فيها آيات البيان في مخامل من الهراء. |
هناك جسور تكثر أو تقل في الأرض أو في السماء، أو ما بينهما في الفضاء.. فأي جسر تستقله، وقد عميت علينا الآراء. |
دع صخرة "سيزيف" يصعد به ويهبط طيلة عمره، ما دام أن هناك في قمم أولمب اليونان أرباباً سخفاء. |
بقي حلم واحد من ثلاثة أحلام: |
هل تحلم بالماضي؟ فإن الماضي قد زال، وهل تحلم بالحاضر، فإنه لا يلبث أن يكون في حكم الماضي. |
ثم هل تحلم بالآتي؟ فذاك ضرب من المحال: |
ولقد ضحك البرق في ليلة، ووجدت وراء ابتسامته التي لا تفصح عن معانيها أشباحاً قد تروح، وقد تروق.. فمن الجنوب توضحت أسنان "سيف ابن ذي يزن" وهو يتخلع رداء الأحبوشين، ومن الشمال فهؤلاء ملوك غسان ولخم في الأرجوانيات الحريرية الهفهافة، ونعود إلى نجد الأنجد، فأخيل فيه كما خال طويل العمر فيصل
(2)
.. |
(أخيل براق على نجد عاروض).
|
وتلتفت في العين ثم تطرف أو تنكسر، وأسمع الشريف الرضي وقد تلفت قلبي مع قلبه، وهو ينوح: |
وتلفتتْ عيني، فمذ خفيتْ |
عني الرسوم.. تلفت القلبُ
(3)
|
|
.. هذه هي أحلام النهار، وأنت مشغول بلقمة العيش، ثم كيف تسيغها وفي حنجرتك آلاف الهموم والغموم؟ |
ليكن عيشك طيباً يا أحلام النهار.. فقد أشعلت الأحزان في القلوب وقد أسعفتينا بالدمع والدم المسكوب.. وليكن هناك حبيب قد حيل بيننا وبينه فأخذ أحدنا يتغنى على نمط من الهجيني، من قصيدة قديمة، يقال في بعضها وهي طويلة: |
تكفون يهل المودة لا تلومونه |
لا تلحقونه مناقيدٍ على شاني |
يا حس قلبي الياقمتو تحسونه |
حس المناكيف هجن حيلها وإني |
|
ومعنى البيتين باختصار نثراً: |
أيها الأحبة.. أرجوكم ألاّ تلوموا حبيبي، ولا تتبعونه النقد لأجلي، إن قلبي كلما عذلتموه لك الإبل التي رجعت من الغزو وهي هزلى ضعاف، وهم يدقونها بعراقيب أرجلهم، ولا يهمهم أن تنفق أو تصل وقد أصبح حيلها -حولها- وانياً.. |
ومثل ذلك قد قاله أحد شعراء الحرة من قبيلة "حرب": |
يهل الهوى خلّوه، خلوه، خلوه |
خلو حثابيره لناس يبونه |
أنحو عليه بلومهم لين جلّوه |
هو مقفيٍ عنهم، وهم يطردونه
(4)
|
|
ومع هذا كله فما يزال حلم النهار باقياً في أساطير الغيب. |
أما معنى الأبيات فهو يقول: |
يا أهل وده، اتركوه لمن يبغي بقاياه، فإنهم شدوا عليه اللوم، حتى لقد أصبح منحاشاً عنهم وهم وراءه يطردونه. |
هذه أحلام النهار على سبحات من أفكار شتى، لا رابطة بينها، إن فيها فجوات غير صحيحات، وفيها شطحات غير أمينات، فإذا حلمت في النهار يا سيدي، فما نحن بتأويل الأحلام بعابرين. |
|