أجنحة بلا ريش
(1)
|
طلبت مني "عكاظ" أن أكتب لها أسبوعياً مع زملاء أصدقاء من كتَّاب آخرين، وقد استجبت مبدئياً على ألاّ تحدد المواضيع، وألاّ تحصر في بحث واحد يستمر من أول المقال إلى آخره، فإن ذهن الكاتب كالطير الحدث الذي يقفز من غصن إلى غصن..! ومن ذا الذي يحتم عليه أن يبقى على غصن واحد؟! |
كما أني أرجو لو تعنى عكاظ بالتصحيح عناية ولو بعض الشيء. |
(1) |
إن الله عز وجل أرحم بالناس من أن يفرض عليهم الصدق دائماً؛ ذلك لأن الصدق منصب في كل الحالات! |
من أجل ذلك درئت الحدود بالشبهات كما وقع في قصة المغيرة بن شعبة، وهي معروفة في كل كتب التاريخ الإسلامي
(2)
! |
لو أصبح الصدق هو القاعدة المطلقة في كل الأحكام وكل المعاملات، لما بقيت هناك صداقات ولا قرابات، ولعادت العداوة، والشغب، والتنافر والتنابذ عامًّا سائراً بين كل الناس، ويكونون بعد ذلك معذورين في كل ما هنالك! |
(2) |
فكرة، ولكنها قديمة.. وتحتاج إلى شيء من التوضيح! |
لو لم يوجد القبيح كيف يعرف الحسن؟ |
ولو لم يخلق المرض كيف تعرف الصحة..؟ وعشرات أو مئات من الأضداد لا تفهم حق فهمها إلاّ بما يناقضها! |
ترى لو وجدت الدنيا على سواء واحد.. عافية بلا مرض، وقبح بلا حسن، وهكذا إلى الآخر.. عند ذلك كيف يتطعم الإنسان طعم هذه الدنيا.. |
لو فرضنا أنَّا بقينا على طعم حلو.. طول آبادنا.. فمن أين نعلم أن هناك طعماً مراً، وآخر حامضاً.. وآخر مالحاً، وهناك ما بين ذاك وذاك.. وهناك تتباين الأذواق... وتختلف المذاهب.. |
من هنا استغاث قوم موسى.. وقد كانت المن والسلوى تهبط عليهم من السماء، وهم في التيه قد لبثوا نحواً من أربعين سنة.. |
وقد اختلف المفسرون، والعلماء في المن والسلوى، وذهبت تفاسيرهم قدداً! |
وهذا لا يعنينا! |
الذي أريده، كيف يمكن أن يبقى الإنسان على طعام واحد، مهما كانت نفاسته وقيمته؛ ولذلك قال بنو إسرائيل: لَن نَّصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ
(3)
وطلبوا من الأرض بصلها، وفومها وعدسها إلخ.. |
ويتأدى من ذلك.. هل من الممكن جمع الناس كلهم.. على طعام واحد؟ هذا لا يكون إلاّ إذا تيسر جمعهم على دين واحد، أو مذهب واحد..! وكيف يكون ذلك؟ |
(3) |
مثل عند العرب يقول: "الخلاء ولا وقدان"
(4)
.. والذي لا يعرف المثل من الحضريين لا يفهمه: |
فقد جاور أحدهم في "وقدان"، فلم يرفعوا به رأساً، ولم يباشروه مباشرة الجار لجيرانه فأطلق هذا المثل.. |
أما وقدان فهي قبيلة في أطراف الطائف، منها الشاعر النبطي المشهور بديوي الوقداني صاحب القصيدة المشهورة لدى العامة التي مطلعها: |
أيامنا والليالي كم نعاتبها |
شبنا، وشابت وعفنا بعض الأحوال |
أيام في غلبها.. وأيام نغلبها |
وأيام فيها سوا.. والدهر ميال |
|
وهي طويلة ومعروفة، ويغنونها في "المجسَّات".. ومن أملح ما قال فيها.. قوله: |
أعرف حروف الهجا بالرمز وأكتبها |
عاقل ومجنون حاوي كل الأشكال |
لكن حظي ردي والروح متعبها |
ما فادني حسن تأديبي ولا أمثالي |
|
وقبيلة وقدان تقول: إنها من "عتيبة"؛ ولذلك يقول في طرف منها: |
سومت بالروح لين أرخصت جانبها |
وأنا عتيبي عريب الجد والخال
(5)
|
|
إلى آخرها.. وهي قصيدة بلغت من الشهرة عند العوام ما لا تبلغه قصيدة أخرى.. على ضعف في نسجها، وركاكة في عباراتها. |
(4) |
من ظرفاء الحجاز المشهورين أبو السائب المخزومي، وزميله ابن أبي عتيق، وأخبارهم ونوادرهم معروفة في كتاب "الأغاني" للإمام الأصبهاني، وفي كتب الأدب الأخرى.. "العقد الفريد" وغيره من نثار كتب متفرقة. |
ولوددت لو تصدى لهما من يجمع أخبارهما ونوادرهما في كتاب جامع، فإن لهما من الظرف والفكاهة.. وخفة الروح.. والمرح ما لا يكاد يوجد في عصر واحد مثل عصرهما.. وقد كانا في عصر "التابعين". |
رحمهما الله، وخلف علينا مثلهما في هذا العصر الكئيب! |
(5) |
بيت أحمد شوقي المشهور من قصيدته الأندلسية، وهو قوله: |
وطني لو شُغلت بالخلد عنه |
نازعتني إليه في الخلد نفسي
(6)
|
|
هذا المعنى مأخوذ بلطف من مقطوعة غنائية عباسية، أشار إليها صاحب كتاب الأغاني: |
قال صاحب المقطوعة منها: |
يا رب لو أنسيتنيها بما |
في جنة الفردوس لم أنسها
(7)
|
|
|