ساعة صمت
(1)
..! |
ساعة صمت، وكل ما حولي يعج ويصخب، إنه صمت عميق ساج مثل الليل، هائل فازع مروع مثل القبر الذي لم تقذف فيه جثة الميت بعد، صمت عجيب نادر! |
وشعرت بأشياء كثيرة تعمل في رأسي، وتتطاحن، وتشتعل وتؤوب وتذهب.. وأحسست بهنات أخرى تصعد من قلبي رويداً رويداً وتحتل أيضاً من رأسي مكاناً فسيحاً، وتعمل هي الأخرى، وتعتلج وتتزاحم. |
أصبحت رأساً حياً متوهجاً ونسيت بقية جسمي، حتى لكدت أن أعتقد أن رأسي يمتد إلى أصابع قدمي، وآذاني فرط ثقله وضخامته، وعزب عن بالي أن هذا الرأس يقوم -في وهمي- على غير جسم..! |
مئات ومئات من الأفكار، وأنصافها، وأرباعها، وأجزائها، وأجزاء أجزائها، تدور وتدور، وتتفرق وتتجمع وتنضح وتختلط وتسكن، ثم تضطرب.. |
وذكريات وأحاديث نفس؛ منها ما يتصل حتى يتم فصوله، ومنها ما ينقطع قبل ذلك. |
في ساعة الصمت هذه، اضطربت نفسي وقلبي بتيارات كثيرة من المشاعر والعواطف والإحساسات، والأفكار والذكريات. |
فكرت في العرب والمسلمين وتتابع النكبات عليهم، وقفزت إلى ذهني عبارة "غثاء السيل" التي جاءت في حديث نبوي مشهور
(2)
. |
وفكرت في نفسي وما يلابسني ويرهقني من ظروف وأحوال عصيبة، وما ينحو نحو ذلك أيضاً مع الكثيرين من الناس المساكين الذين ضربت عليهم حظوظهم وعثارها بالأسداد! |
وقد ذكرت أشياء كثيرة عدها الناس لي في ذلك الحين؛ ولو دروا عن البواعث الحقيقية التي أوجدتها لأوسعوني ذماً وثلباً. |
وتذكرت أشياء أذم من أجلها على الدوام، وهي رحمة خفية من رحمات الله لا تدركها العيون. |
واستعرضت مصادر التاريخ فعجبت من أمور لو جرى فيها القلم بشيء هيّن من التحقيق الدقيق لانقلب البياض سواداً، ولعاد السواد بياضاً في أغلب الحالات. |
وتنبأت كذلك بمذبحة عالمية لليهود، لا أدري متى يحين حينها على التحقيق، ولكني على أجزم اليقين من وقوعها، ولو بعد مائة عام! |
وتذكرت أصدقاء وأعداء طواهم التراب، وأعاد خلاصاتهم إلى أصولها من منتجات التراب، وتذكرت في نفس الوقت -لا أدري لماذا؟- الكاتب الذي يرد كل شيء وكل "لا شيء" إلى عوامل نفسية! |
وذكرت الموت، وأنا أذكره دائماً ودائماً، فاستعجلته، والله على ما أقول وكيل. |
ووثب إلى ذهني تيس أحمر الشعر كالذهب (له ...) كان يؤذينا في دارنا، وكنا ندفعه من هنا، ليعود من هناك، فلاحت في ذهني أيضاً لحية جميلة جليلة في وجه "برنارد شو". |
وفكرت في أشياء كثيرة يخطئها العد، توافه وجلائل، فلم آسف أبداً على ما وقع لي بالذات، ولم أتحسر على شيء أردته فما أتيح لي، ولم تحسد وحتى تغبط هذه النبتة الصغيرة تلك الذؤابة العالية من الشجرة الكبيرة؟ |
إني أعيش في حندس من الليل في هذه الحياة، أمد يدي هنا وهناك وأنا في مكاني، فما تقع على شيء يصلح للاستعمال والاستهلاك إلاّ دفعته إلى موضعه من جسمي ونفسي، فإن لم أجد شيئاً وضعت رأسي بين ركبتي، وغططت، فإن هزتني فكرة -مهما كانت- قلت لها: |
ارجعي إلى مكانك، ونامي، فلست بخير مني على أي حال.. ولن يكون الفعل مهما كان عظيماً بأعظم من الفاعل الذي يأتي به، وبأفضل منه بلا عناء..! |
وما أزال قابعاً.. فمتى تأتي فتفرج عني القبعة الأخيرة؟ |
هذه ساعة صمت واحدة؛ فكيف لو كانت ساعة كلام؟ |
|