[قصتي قبل الولادة]
(1)
|
هي قصة من أغرب ما يمر على أمشاج الخلق قبل أن يتكوّن تكوناً تاماً، فقد يجوز أن تنقطع بي السبل لو أني تحدرت من ظهور أجدادي إلى صلب أب عقيم، ولكني -واأسفاه- وصلت سالماً -غير غانم بالطبع- إلى الحياة الدنيا، وأخذت مكاني الضئيل بين ملايينها الغفيرة. |
فقد شعرت بنفسي، وأنا نطفة تتنقل من صلب إلى صلب وكان أجدادي من أوساط الناس؛ فلم أكن بالشريف الباذخ، ولا بالوضيع المُطرح، وما فتئت ملامح الأجداد من ذكور وإناث وأخلاقهم تتوالى علي من هنا وهناك، ثم تتطاير أيضاً، ولا يبقى منها إلاّ القوي الراسخ؛ وكم فيها من متناقضات بعد متماثلات، وليس للنقيض ولا للمثيل حكم في الأمر، وإنما يذهب الضعيف الخرع، ويرسخ القوي الأيد من النقيض والمثيل على السواء. |
فأنظر كم جد وجدة منحوني من ألوانهم وشياتهم وغرائزهم الشيء الكثير، ثم عادوا فاستردوا المتزايل الأوهى، وتركوا الثابت الأقوى، وليس لي في ذلك خيار، فإني كما تعلم نطفة بائسة، تتقبل كل حكم ولا تستطيع أن تأخذ وتمنع بحرية تامة؛ ومع ذلك فقد تنزلت إلى صلب أبي خليطاً لا أفهم كيف تأتّت أمزاجه وأمشاجه، ولم يكن لي في ذلك يدان. |
وكنت ما أزال أشعر بأني مثل القطرة في البحر، تتحدر من موج إلى موج، ويسري عليها ليل بعد نهار، ويختلف عليها المد والجزر، ولا تملك لنفسها أي أمر في دفع أو جذب، ولكن شعوري بأني حي كامل ما يزال يتمشى في أوصالي منذ أن بلغت صلب أبي على الأقل. |
وقد انتهت كل العصارات والخلاصات القوية إلي عن الأجداد الأقدمين، وتمكنت مني تمكناً تاماً. |
ولن أتكلم عن الطبائع المتقلبة التي تطرأ ثم تزول، ولن أتحدث عن السحنة كيف تكون؟ ولا في أي مذهب كيف أجري؟ فإني ما أزال -كما قلت آنفاً- نطفة في قرار مكين. |
وقد تحدث رب العزة سبحانه وتعالى عن كل ذلك بكل بليغ ومبين من آيات الذكر الحميد، فماذا أقول؟ |
أما كيف تولدت هذه النطفة العجيبة، ومن أي العناصر تخلقت، فذاك سر من أسرار الغيب لا يعرفه إلاّ العزيز الحكيم. |
ولم أزل في ظهر أبي، حتى تزوج، ولم أكن في الشكل الذي يمكنه فيه أن يستشيرني [فيمن]
(2)
يجب أن تكون أمي، فبنى بزوجته بالرفاء والبنين. |
ولم تكن أمي وحدها، وإنما جاءت بأخوال لا أعرفهم حينذاك فهبطت إلى بطنها في خشوع ورضوخ، وتلقيت من أخوالي كل شيء.. المحاسن والمساوئ على السواء. |
زد على ذلك ما استفدته من الأجداد والأعمام من قبل أبي؛ فهذا العالم الشامل كيف يمكن أن يجمعه شخص واحد، لولا قدرة الله القادر على كل شيء؟ |
ولبثت شهوراً معدودة في هذا العالم النادر من بطن أمي، أقتات منها ما تبعثه إلي من خلاصات أطعمتها وأمزجتها غير مختار! |
فقد يحدث أن تتوعك؛ فآخذ من توعكها قدراً مستطاباً، وقد تغضب أو ترضى، وقد تكون حمقاء، ويحتمل أن تكون مجنونة، فما ذنبي؟ بعد أن تلقيت بالرغم مني أخلاطاً من الأجداد والأعمام والأخوال، ولا أستطيع أن أميّز ما يحسن الذهاب فيه، ولا ما يجوز تركه! |
وقد مكثت تسعة شهور قد تزيد وقد تنقص أياماً، ثم هبطت بكل أثقالي من شتى الأنحاء والأشخاص! |
حُمّ القدر، وصدق القضاء، ونزلت دنيا الأحياء، وأنا ممتلئ حافل بكل ضد ومثيل من جميع الأنحاء، فإلى أي سبيل أتجه، ومع أي طبيعة أنقاد؟ |
أما قصتي بعد أن ولدت، فهي قصة يعرفها كل إنسان لو استطاع أن يعبر عنها بعض التعبير؛ فهل يريد القرّاء أن أعبر لهم عنها؟ |
|