الثلاثة السعداء
(1)
|
أنا لا أعني سعادة الآخرة، فتلك علمها عند ربي، ولكني أعني سعادة الدنيا، وسعادة الدنيا -مهما كانت- ليست بالشيء الذي يرغب عنه، أو يزهد فيه، ولو صح ذلك، لرأينا أهل الورع والعلم والتقوى يزورُّون عنها ازوراراً ويطوون عنها كشحاً، ولكنهم لا يفعلون ذلك لأنهم لا ينسون نصيبهم من الدنيا، استرشاداً بأمر الله جلّ وعلا
(2)
. |
وفي الدنيا ثلاثة سعداء، وما أحسب أن غيرهم يظفر بما ظفروا به من سعادة ومتعة ويسار، مع خلو البال، وراحة القلب، واطمئنان النفس. |
فإن الحياة قد صفت لهم، وأولتهم أنقى ما في أفاويقها من خالص الدر وعاجل البر ووافر الخير والنعماء. |
وساعدهم على استخلاص هذا النعيم ما رُكِّب في نفوسهم، وامتزجت به حمأتهم من مزاج يساعف، وطبيعة تلاطف، ونفس تنال كل ما تتمناه بدون أن تجازف. |
فأما الأول فالجاهل، ومن أسعد من الجاهل؟ فإنه يسير -أو يُسار به على الأصح- في ركب الحياة، وهو لا يدري أين مكانه في الركب، ولا يبالي هذا المكان أتقدم به أم تأخر، ولا يكترث أتيامن به النهج أم تياسر، وصعد أم صوب، ولا يحفل بأن يعرف الغاية المتوخاة! إلى مفرق كوكب أم إلى حضيض هاوية؟ ولو عرف الألفاظ ورددها مع مردديها الكثيرين لما استطاع أن يدرك مدلولها، ولن يجشم نفسه عناء التساؤل، ولا لهفة الاستطلاع والتشوف، فما له بذاك يدان ولا قدمان. |
وتُخْتم قصته بخاتم كريم، وهو أنه يبلغ في الجهل ذروته العليا، فيجهل أنه جاهل. |
فأما السعيد الثاني فالغافل! والغافل مع جهله سمح النفس دمث الطباع تبلغ به طيبته الدرجات العلى، فهو محثوث الخطى مع القافلة، مبهور الأنفاس، ولكنه يسير ويعيش بلا مقياس. |
لا مقياس يستطيع به أن يقارن بين الماضي والآتي، فأما حاضره، فهو في غنى عن تأمله، ما دام أنه ينطوي فيه انطواء الحشرة البحرية في قوقعتها. |
والغافل تبطل في ذهنه -إن كان له ذهن- كل الملكات، وتتبلد كل الغرائز، حتى الغرائز الحيوانية الأصيلة مثل غريزة الخوف، وغريزة المحافظة على النوع، ذلك لأنه يحيا في أفق منفرد من غفلته غير الآفاق التي يسبح فيها الناس على اختلاف طبقاتهم؛ فقد يتعرض للخطر وهو لا يدري، وقد يلم به مكروه، أو تليح له كارثة، ولكنها خارجة من حسابه؛ لأنه لا يحسب، ولا يعقب، ولا يشغل ذهنه شيء أبداً، لأن ذهنه لا يفرغ إلاّ لاستمتاعه المؤقت الذي يناله بلا جهد ولا تفكير. |
وإن الغافل ليأكل وجبته، فتستغرقه هذه الوجبة ذات الألوان؛ حتى إنه لا يخطر بباله مطلقاً أنه سيضطر إلى شرب الماء بعد الأكل! |
فالساعة التي يعيش فيها الغافل تصرفه عما قبلها وما بعدها من الساعات، ناعمات أو بئيسات. |
وإذا أدرنا الحديث الآن عن ثالث السعيدين، فإنما نديره عن أوقرهم -في رأيي- حظاً من السعادة وأجزلهم نصيباً من المتاع. |
فمن هو هذا الثالث المجدود؟ |
هو الذي يحيا في الأحلام المجنحة ويغالط نفسه في الحقائق الجاثمة أمامه والتي تكاد تفقأ عينيه، وتدخل في أذنيه حساً ولمساً. |
الذي يغالط نفسه في الحقائق سعيد جد سعيد! لأنه لا يكل نفسه البحث والتقصي، وكيف يفعل ذلك؟ وهذه الأسماء قيد نظره فيماري في مسمياتها ويحيلها إلى أضدادها. |
إنه يرى الفوضى في بيته فيقول: يا له من نظام! |
ويبصر الزلزال يحيل الأرض عاليها إلى سافلها فيطفح وجهه بالسرور "الفظيع"، ويقول: يا له من تخطيط بديع! |
وما تفتأ خيوط أوهامه تنسج له بيوتاً أوهى مما يصنع العنكبوت؛ فقد يكون منحطاً فيتسامى، أو غبياً فيتعالم أو عيَّاً فيتفاصح، ولا يضيره -بعد- إن عاد الليل نهاراً أو تبدلت الأرض سماء، أو انقلب البحر براً، فإنه يطمع حتى في ما لا ينال، ويسعى جاهداً إلى درك المحال. |
ولكن كل ما قلناه هنا، هراء في هراء. |
فإن أبا الطيب -أو أبا محسد- استطاع في هذا البحث أن يوجز فيعجز، ويقول فلا يترك بعده مقالاً لقائل: |
تصفو الحياةُ لجاهل أو غافل |
عما مضى منها، وما يتوقعُ |
ولمن يُغالط في الحقائق نفسه |
ويسومها طلب المحال، فتطمع
(3)
|
|
يا أبا محسد: غفر الله لك وأرضاك كلما تذكرناك. |
|