شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
جواب رسالة (1) ؟؟
أما رسالتك يا سيدي، فسوف يأتيك الجواب عنها في يوم ما، ولكني ذكرت -لمّا قرأتها- قصة بسيطة جرت لي في حداثتي، وسأقصها عليك.
ناهزت الحلم قبل سبعة عشر عاماً؛ وكل إنسان يناهز الحلم ما لم تخترمه المنون، ولكن الناس ينسون كيف يُضل بلوغ الحلم نفوساً كثيرة.
وقد ضل حلمي ضلالاً خفيفاً، فشدوت شيئاً من المعرفة، وقرأت المنفلوطي واليازجي والحداد والبستاني، وقرأت الشدياق في كتابه "الساق على الساق فيما هو الفارياق؟" وقد وضعت علامة الاستفهام هنا؛ لأني خرجت من الكتّاب وأنا لا أعرف ما هو هذا "الفارياق" كما خرجت من كتّاب السيد أحمد الفيض آبادي دون أن أستطيع أن أرسم في ذهني ولو صورة مصغرة عن هذا الذي استطاع أن يبني العلم في الحجاز مع بناته الخالدين، ذلك لأن هذه التراجم "الأتوماتيكية" لا تعجبني، هذه التراجم المحشورة بالأرقام منذ ولد هذا العظيم إلى أن اصطفته رحمة الله، وكيف وفد؟ وكيف كان يعمل؟ وماذا كان يلبس؟ وكيف كان يبتسم في وجوه زواره؟ وكيف، وكيف؟!
هذه التراجم التي تنتظم الحوادث والأرقام كتاريخ الجبرتي! تثقل على روح القارئ، كما ترزح الذرة تحت صخرة هائلة، ذلك لأن روح العصر لا تتحمل كل هذا الحشد الأجوف؛ ولذلك ابتدع "إميل لدفيج" طريقته الجميلة في تراجمه النفسية والعقلية للعظماء.
وأراني -يا سيدي- بعدت عن غرضي، وما عليك أن أبعد، فقد كتب علي أن أنوء بهذه الآضار جواباً لرسالتك العجيبة.. كنت -إذاً- قد ناهزت الحلم، وعلقت ببعض المعرفة، وتعرفت إلى شيخ جليل من حيّنا، يشدو كذلك شيئاً مثل شيئي -هل يجوز هذا التعبير؟- وكان هذا الشيخ ظريفاً، والدليل على ظرفه أنه كان يعتقد أن المسلمين في القرن الرابع عشر يمكن -بسهولة- أن يكونوا كما كان المسلمون في صدر القرن الأول، ديناً كاملاً، وخلقاً فاضلاً.
وكنت أقول له: إن هذا لا يمكن أبداً، وذلك لأن المسلمين في القرن الثاني لم يكونوا كالمسلمين في القرن الأول، ولم يكونوا في القرن الثالث كما كانوا في ما قبله. ولكنه كان مقتنعاً بصواب رأيه. وفي ذات يوم -وكان قد علم عن ابنه الكبير شيئاً مما يعبث به الشباب- قلت له:
انظر أيها الشيخ الجليل، إنك لا تقارف هذا الشيء، وقد قارفه ابنك وليس بينكما إلاّ فترة لا تزيد على عشرين عاماً، فكيف تريد أن يكون المسلمون بعد ألف وأربعمائة سنة -تقريباً- كما كانوا في أول نفحة هذا الدين؟
فطفق يحك قذاله بيد اعرورقت أشاجعها وازداد وجهه غضوناً، وقال:
لقد صدقت يا بني! وانهار في نحيب متواصل، وقد فزعت عندما رأيته يستمطرها أربعاً، فتأتي ثمانياً، من تلك الدموع السخينة التي تجود بها الشيخوخة.
واستطعت أن أحس بحركة لساني فقلت له: هوّن عليك، فإن بعد الشيخوخة شباباً في أعمار الأمم، وإن لم تكن القاعدة مطَّردة في أعمار الأفراد -لحسن الحظ- وسيبلغ المسلمون ما استطاعت شيخوختك الكريمة أن تستلهمه بوقدة ذكائك وكرم نحيزتك وطيبة نفسك. وقد استفدت من هذا الشيخ شدة الصبر على المكاره وفرجة الأمل في كل نائبة.
على أن كل ذلك قد أبلغني شيبي قبل أوانه، وأستوحي في أوطار الشباب حصافة الشيوخ، ولا ينقصني بعد ذلك إلاّ تلبّث في القعدة، واتزان في المشية، وارتعاش في الأعصاب، وعصا أتوكأ عليها!
فمن معيري هذه العصا؟
 
طباعة

تعليق

 القراءات :760  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 127 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

سوانح وآراء

[في الأدب والأدباء: 1995]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج