شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أبعد من الخيال (1)
في لبنان -وفي بيروت خاصة- أزهار تأرج من الدمن.. لا الأرض المسحورة، ولا طيب الجو، ولا عوامل الطبيعة، كل ذلك لا يمكن أن تحس له أثراً في إيجاد هذا الزهر العابق.
وليس فيها "سمسم" ليفتح لك الباب!
ولا فيها "دبشليم" أو "بيدبا" ليقول لك: وكيف كان ذلك؟!
من ذلك -مثلاً- ومن المثل الأعلى أني يوماً مررت على "سوق الطويلة" فوجدت فتاة في الرابعة عشرة من عمرها تبيع أزهاراً.. والناس يجانبوها ولا ينظرون إليها، وكان عليها شيء من جمال الصبايا الغرائر فوقفت لديها واشتريت منها باقة من أزهار "الغاردينيا" وهي جميلة في اللون والمنظر والشم.. وأنا امرؤ قد فقدت "حاسة الشم" منذ زمن طويل واعتضت عنها بزيادة ملحوظة في النظر وفي الميل النفسي..
وناولتها القيمة التي بغتها بلا مناقصة، ولكنها عند أوان انصرافي عنها استوقفتني، وقالت بلهجة بريئة:
- أظن أنك لست من هنا.
فقلت لها: كلا.. بل من هناك.
- من أين؟
- من "أم القيوين".
- وأين تقع هذه؟
- كانت "أم القيوين" هذه عجوز دبراء من "قحطان" تتربع تلك الأرض في شمال الجزيرة الشرقي، ومعها غنيمات لها في بيت من الشعر، وإلى جانب منها لا هو بالبعيد ولا بالقريب "ماءة" تسقي منها وأغنامها، لم يكن لها اسم معروف. وفي أواخر ليلة سمعت خبط راكب لمطيته أمام بيتها، ولم يكن معها إلاّ كلبها الحارس واسمه "درعان"، وتنبهت وصحا معها كلبها، وفوجئت برجل ملثم قد أناخ مطيته وعقلها، ولعلّه لم يتوكل، وقال لها:
إني ضيف!
فقالت له: "أرحب نفداك"، وهذه مختزلة من قولة: "أنا فداك".
وأشعلت النار، وخبزت له رغيفاً جيداً من البر، وعركته بشيء من سمن، ثم قدمته إليه قائلة:
إن ضيف الليل مجفو (2) !
ونام الناس.. وأتى الصباح يهز أطاريفه.. فخطبها إلى نفسه فأجابته، وكان رجلاً منتصفاً بين الكهولة والشيخوخة، ولقي شن طبقة!
وقدرة الله لا اتساع لحدودها، ولا مدى لمقاديرها.. فبعد تسعة أشهر أنجبا ابناً سمياه القين، ثم صغراه، فأصبح القوين.
ثم ازداد تصغيراً لعلة مجهولة، فصار الاسم "أم القيوين". وعلى أن هذا الاسم مستنكر ومستغرب، ولم يسبق له مثيل في مفردات اللغة العربية، ولا في اشتقاقاتها، ولكنه أصبح علماً مطلقاً على هذه البقعة المحدودة التي تسمى بهذا الاسم!
هذا الهذر كله حير زمني، والفتاة قد ألقت بسمعها كله تحت ثعلب لساني، ونظرت إليها لأرى وقع كلامي عليها، فلم يبد عليها أي ملل أو ضجر من هرائي المرتجل، ولكنها بكل برود، وبنصف ابتسامة بدت في ثناياها قدمت إليَّ طاقة من البنفسج تحية لي، وقالت:
تالله إنك لضيف الخيال، ثم التفتت إلى زبون آخر إيذاناً لي بالانصراف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :571  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 126 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج