صورة تتضاءل على القرب (2)
(1)
|
.. عندما هبطنا من عقبة "ضلاع" إلى تهامة.. وكان الطريق لا يسع حمارين، وعن اليمين والشمال كانت هوى "جمع هوة" تفغر أفواهها.. فمن تدهدى فيها، فلن يعرف له أثر.. وقد نزلنا، وسقنا حميرنا، ونحن ثلاثة.. ثالثنا غلام صغير السن لا فائدة ترجى منه! |
بعد العصر توجهنا من أبها إلى العقبة في طريقنا إلى ساحل تهامة.. وقالوا لنا: إن الطريق مملوء بالأفاعي، والأحناش.. فتنبهوا! |
.. ولكنا مشينا، ومعنا كل ما يلزمنا من أزواد، وماء وأسلحة.. وقد حذّرنا أمير هذه المنطقة تركي السديري من سلوك ذلك الطريق.. قال: إنه خطر.. |
كنا أيامئذ في حركة "جبل الريث" الذي قتل فيه صالح مزيكة، فلو أخذتم السبيل إلى الشعبين، أو العقبة الصماء لكان أدعى إلى السلامة، وإن كان هناك فرق في السير، فهو يوم واحد، يزيد على ذهابكم مع هذه العقبة.. فقلت للأمير: |
إني عقدت إصراري ألاّ أذهب إلاّ مع هذه العقبة، وليكن بعد ذلك ما يكون! |
وامتطينا حميرنا الثلاثة إلى رأس العقبة، ثم هبطنا إلى مكان يسمى "البحصة" وكان وادياً ضيقاً تحيط به الجبال والأشجار من كل ناحية، حتى إن الشجر لتخطف بأغصانها الشوكية عمامة أحدنا، ونحن مع ذلك مطأطئون على الحمير، فلا نفتكها من الشجرة إلاّ بعد جهد جهيد.. وكان هذا الوادي كثير السيول المنصبة من أعالي جبال عسير الشامخة.. وعندما وصلنا "البحصة" كنا نرى الأشجار الهائلة الكبيرة في طريقنا وقد مالت على جوانبها، فأمسينا نوقد فيها النار، فيمسي الوادي، وكأنه قد عاد نهاراً.. وأخذنا عشاءنا وتحارسنا إلى أثلاث من الليل، إذا نام أحدنا استيقظ الآخر.. ولم نفطر هناك ولكنا درجنا إلى منتهى الوادي مما يلي تهامة، وهو المسمى بوادي "عتود"، وأخذنا فطوراً خفيفاً مع بعض الشاي والقهوة المحفوظة معنا ثم استأنفنا سيرنا! |
كانت الجبال عن أيماننا، وشمائلنا باسقة الذرا، ونحن نتعرج في هذا الوادي الضيق المحدود.. وحينما خرجنا إلى مكان فسيح يشتمل على سهل واسع تلوح فيه بعض الهضاب الصغيرة.. ضللنا الطريق، فأخذنا إلى اليمين بدلاً من أن نأخذ إلى اليسار! |
وأبصرنا على ثبج من الأرض راعياً مسلحاً بخنجر وبندقية من ذوات إحدى عشرة طلقة، ويلبس إزاراً، وقميصاً، وفي يده عجراء من سلم.. وسلمنا عليه، فرد تحيتنا بأحسن منها، ولكنه وضع يده على مقبض خنجره.. وسألناه عن الطريق المؤدي إلى درب "بني شعبة"، وهي قرية تبعد عن ساحل "الشقيق" مسافة قصيرة.. |
فقال: لقد ضللتم.. تياسروا حتى إذا أتيتم إلى تلك الهضبة -وأشار إليها- فستجدون الطريق أمامكم، وهو الطريق الوحيد الذي يفضي بكم إلى درب بني شعبة. وأهرعنا بحميرنا في الاتجاه الذي ذكره، فلم يمض إلاّ أقل من ساعتين إلاّ ونحن في الدرب. |
وهذا الدرب مؤلف من أكواخ وأعشاش، ولا تتجاوز مساحته إلاّ بضع مئات من الأمتار، وسكانه لا يزيدون عن ألف نسمة أو ما فوقها بقليل.. |
كان أمير هذا الدرب أيامئذ محمد بن هادي وهو من بني حدرة من قبائلهم، وله ولدان أحدهما يدعى هادي والآخر اسمه علي.. ولقد تلقانا الرجل، فأهل، ورحب، وأنزلنا في دار من دورهم، وهي عبارة عن عشة من الظاهر.. ومن الداخل مقورة بالطين.. ثم أضفنا، وصنع كل ما يجمل به من الخدمة والرعاية. |
كنا حينذاك في شدة أوام الحر، إلى حد أننا كنا نغتسل بين اليوم والليلة أكثر من عشرين مرة، وكل يوم قبل العصر إلى ما بعده يثور علينا عجاج أقتم يملأ الأفق.. حتى ليسد آفاق السماء.. ولبثنا كذلك أياماً.. |
وفي يوم من الأيام عجبت لما رأيت إبراهيم صدقي آتياً من صنعاء مع السفير الهولندي، ورفقائه. |
هذه رحلة يجب ألاّ تكون على بال، لولا الزلزال الذي حدث لنا فيها ونحن هناك. |
|