المطلق.. والمقيَّد (2)
(1)
|
إذا كان لا بد من مقدمة، فإن هذه الأسطورة مكسيكية، علقت بذاكرتي من مطالعاتي القديمة جداً، وقد ذهب عني كثير من سماتها ومعالمها، فأحببت أن أصوغها على طريقتي الخاصة، وإن كنت قد احتفظت ببعض شيء من خيالها ومعانيها وأهدافها.. كما أن عنوان الأسطورة هذا غير عنوانها الصحيح. |
قال السائل في استعجال: قل وأسرع.. |
ولكن المسؤول تلبث ملياً، ودفعه إلى بقية شحيحه من الظل وبدا أطول مما كان حينما تكلم قائلاً: |
- أيها الرجل.. كيف عرفت السيد عنكبوت؟ وما هي الصورة التي تتخيلها له؟ |
- ما من شك في أنك فضولي، لقد سمعت أنه يحب الأطيار الذهبية الصغيرة.. |
- هاه.. وماذا بعد؟ |
- وعندي باقة جميلة منها.. نفائس الجواهر تعتبر بالنسبة إليها حفنة من الرمل. |
وانتشر تيار عنيف في "سماحة" وجه السائل، وتغلب عليه الملل، ورجحت -في ما يبدو- كفة عقله. |
هل هناك تناقض بين سماحة الوجه، ورجاحة العقل؟ لا أدري، ولكن الذي حدث أن المسؤول انفتل بوجهه المعروق، وتراجع إلى الوراء، وقال: |
- حسناً.. اذهب في سبيلك، لقد كنت أنوي أن أحدثك عن السيد عنكبوت حديثاً يعود عليك بالنفع.. ولكن.. آه.. لا جدوى.. |
وتجمد "السائل" في مكانه وزادت قامته قصراً.. ولاحت هامته كأنها جمجمة ميت، وعششت عيناه وراء خطوات المسؤول، وهو يكر راجعاً، ولم يتنبه إلاّ بعد ضجة كبيرة، ورأى ذلك المعروق الوجه دون بقية الناس الكثيرين المحيطين به. إن الغمامة بدأت الثقوب تتخللها من كل مكان، وأبصر أبواباً ونوافذ لا عداد لها، منها ما يفتح، ومنها ما يغلق.. وعندما اقترب كثيراً من الغمامة وجد قوماً يدخلون وآخرين يخرجون. |
واهتز.. وأصابه اقشعرار وتخوف، على أنه خطا إلى الأمام بضع خطى، ولكنه توقف صعقاً عندما اصطدم بأنفه شيء في مثل حجم الفوله.. أشقر ذهبي له طنين موسيقي عذب.. وتخاوصت عيناه إلى جانبي أنفه، فأبصر الذبابة السعيدة تستقر على أرنبة أنفه الذي بدأ يختلج، أما يداه فقد أصبحتا معطلتين.. كأنهما خيطان يتدليان في يوم راكد النسيم.. وكان لون الذبابة الذهبي يتوهج في عينه، وقد أسبل أهدابه على جانبي أنفه.. وهو لا يكاد يطرف.. وزقا طنينها إلى أذنيه، وكانتا هما الأخريان بطبيعتهما متدليتين. |
كان السيد عنكبوت يدعي أنه من عائلة عريقة من أولئك "المغول".. تلك الأقوام التي كانت تنتشر على جوانب نهر "الكيرولين" الأزرق.. ويقول: إن له أيضاً أخوالاً قدماء حكماء من قبائل "الزط".. ولكنه منذ أكثر من مائتي سنة قدم أجداده بدوافع تجارية وخيرية إلى هذه البلاد.. وإذا استرسل تذكر جده القديم العظيم "باغاتور" الذي تروي الأساطير المغولية عنه أنه بلغ من قدرته وحكمته أن أصبح يخيط ألواناً من شرقي "الهواء" إذا التحم بغربيه، واتصل شماله بجنوبه، فيحوك منه مطارف وملاء تتخاطفها أباطرة "الصين" القدماء منذ آلاف السنين.. |
وتقول الأساطير: إن تلك المطارف والملاء لا تنفرد إلاّ بمنافخ وئيدة خاصة من ألطف حالات النسيم، أما إذا انطوت فإنه لا يراها حينئذ إلاّ النظر الروحاني الأثيري.. أو من كان في دين المغول عميق الإيمان جداً. |
ونحن اليوم قد نسخر من ذلك وقد لا تدركه عقولنا.. ولكن الإنكار في حد ذاته لا ينفي وقوع مثل ذلك في قديم الزمان، فإن الدنيا منذ كانت تزخر بالأعاجيب.. |
على أن السيد "عنكبوت" كان رقيق الحاشية مع ضيوفه سهل المعاملة مع خدمه الكثيرين، وكانت مكارمه سحباً تغدو وتروح حتى لقد "عشش" حبه الكبير في قلوب الذين اتصلوا به أو سمعوا عنه على البعد والقرب، والحب إذا عشش في أي قلب كان، فإنه يتفتح على عمى جميل ويتسمع إلى صمم ممتع، وكما قلنا فإن المحبين سادة العارفين. |
فقط كانت في السيد عنكبوت خصلة مذمومة شنعاء، كان يخفيها جهده، ولم يدركها ويكشفها إلاّ ذلك الرجل المعروق الوجه، الطوال النحيل، وقد أحس بعطف خفي لا يعرف له سبباً على ذلك "السائل" السمح الوجه، وكان معتزماً أن يبين تلك الخصلة المذمومة له ليأخذ حذره ويحسب حسابه.. |
ولكن كيف عرف المسؤول تلك الخصلة، وكيف اهتدى إليها على فرط توقي السيد عنكبوت وإحصانه لسره، وكيف انكشفت تلك الخصلة ولم يفطن لها إلاّ ذلك المعروق الوجه دون بقية الناس الكثيرين المحيطين به؟ |
|