المطلَق.. والمقيَّد (1)
(1)
! |
أيها الأخ.. هل تعرف دار السيد "عنكبوت"..؟ لقد قيل لي: إنه يقطن في هذا الحي..! |
كان المسؤول رجلاً معروق الوجه طوالاً نحيلاً.. وكان يقف في ظل أحد القصور.. يفئ عليه هذا الظل وإن كان قد بدأ يتقلص.. وتسرقه الشمس الشارقة قليلاً.. قليلاً.. وقال: |
قد لا تجد السيد "عنكبوت" الآن! فإن من عاداته التبكير إلى الصيد.. ولكن انظر إلى المتفسح الذي أمامك.. ألاّ ترى ما يشبه الغمامة الرقيقة المستديرة في الزاوية اليمنى؟! |
فقال السائل: بلى أيها الأخ.. إني لأرى ما يشبه ذلك! |
تلك هي دار السيد "عنكبوت" وسوف تجده متجمعاً في أرجائها إن لم يكن قد بكَّر إلى صيده! |
وانطلق السائل بعد أن حيَّاه في سبيله إلى دار السيد "عنكبوت".. لا هو بالسريع ولا هو بالبطيء.. إلى تلك الغمامة الرقيقة المستديرة.. |
وطفق المسؤول يحك أذنه اليسرى بعد أن سالت من ناحيتها قطرات من عرق الصيف، وجهد في إعمال فكره، وشغل عما حوله، فقد اهتم للأمر جداً، وحدَّث نفسه قائلاً: |
عجباً لهذا الحجر المنحوت، ماذا يريد من السيد "عنكبوت"؟ |
وراقته السجعة التي جاءت عفواً، فأخذ يرددها ويضحك! |
ثم تذكر أن للسيد "عنكبوت" أيادي كريمة وألطافاً جسيمة.. يعشش بها في كثير من بيوت الناس.. وأن جيرانه أيضاً يحمدون له كثيراً من الآلاء.. فقط.. وأراد أن يقول كلمة.. ثم رأى أن من الأفضل بلعها إلى حين.. وبلعها متلمظاً... أما السائل فقد كان ما يزال يسير، وأحس بشيء من التعب على قصر قامته وكبر هامته، وكان في وجهه سماحة تنقص بمقدارها من رجاحة عقله.. واشتد في سيره بعض الشيء.. |
كانت الغمامة في مكانها، ولكن خيل إليه أنها تبتعد عنه كلما أغذ إليها المسير.. وجد ركناً بارزاً من أركان بعض المنازل، فعدل إلى ظله يستجم.. وقال: |
إذا كان السيد "عنكبوت" يبكر إلى الصيد كما قيل لي، فإني لن أجده الآن.. ولكن سنرى.. واستأنف سيره..! |
هوايات الناس كثيرة وعجيبة، وقد لا تعلل تعليلاً صحيحاً.. ولكن الهواية مهما كانت غريبة أو شاذة لا تدل على نفسية صاحبها فقط، ولكنها تدل أيضاً من جانب أو آخر على نفسية العصر.. تدل على اتجاه الخلايا الخفية فيه.. وتعمل عملها في بطء.. ولكن في إحكام، ولا تستوفي نتائجها إلاّ بعد زمن يطول أو يقصر.. |
عوامل الهواية، وقوتها أو ضعفها، وذيوعها أو خفاؤها.. هي وحدها التي تقرر المصير! |
من يصدق أن هواية السيد "عنكبوت" المفضلة لديه، والتي يطلِّق عقله من أجلها طلاقاً باتاً، ويلحس سقف حلقه عليها.. هي ضرب من الذباب الفاخر المعطر.. يمشي على اثنتين، ويطير طيراناً مسفاً قريباً، ولا يأكل إلاّ نوعاً من الحلواء المركزة، وهو أشقر اللون ذهبي الريش.. قال عنه بعض علماء هذا الجيل: إنه يعتبر من فصائل النحل إلى حد ما؟! |
واسم هذا النوع من الذباب -كولان خاتون- مثل اسم الزوجة المحظية لدى قائد التتر الكبير: جنكيزخان.. |
كما أن هذا النوع من الذباب النادر المرفه النفيس لا يؤكل، ولكنه جلاء للنظر ومتعة للذوق العالي، وله إذا اجتمع طنين موسيقي لذيذ.. ويوضع في مربعات زجاجية شفافة تحيط بها خيوط دقيقة من الذهب الخالص، وتتناثر في نواحيها لآلئ بيضوية الشكل زمردية اللون من حلوائه المركزة التي تصنع له بطريقة خاصة لا يتقنها إلاّ قلة من الحذاق الفطناء المختصين.. |
وكان السيد عنكبوت لا يلذ له طعام ولا يسوغ له شراب، إلاّ إذا وضعت مائدته الباذخة له بين تلك المربعات الزجاجية الغالية.. |
فإذا تماوج ذلك الذباب في بعضه، وأشرقت ألوانه في مثل لون الذهب تنعكس عليه أشعة الشمس، رأيت السيد عنكبوت وقد كاد يذهب به، وأبصرت ما يذهل له الواصفون! |
وعلى ندرة وجود ذلك الذباب ونفاسة نوعه، فقد كانت عنده.. عند السيد عنكبوت مجموعة منه مصطفاة.. وهو مع ذلك فضلاً عن اصطياده بنفسه، مستعد أن يبذل في اقتنائه كل ما تسعه ثروته التي لا عداد لها ولا يحصى لها مدى بالذات.. |
وإذا كانت الهواية مشتقة لغوياً من الهوى.. فإن الهوى يعمي ويصم.. والمحبون سادة العارفين؟ |
لكن الغمامة الرقيقة المستديرة اقتربت أخيراً، وكاد السائل عن دار السيد عنكبوت أن يضع يده على رتاج الباب في سرور طاغٍ، لولا أن يداً أمسكته من الخلف على غرة، وعندما استدار وجد أمامه هذا الرجل المعروق الوجه الطوال النحيل الذي كان يسأله في الصباح عن دار السيد عنكبوت فأرشده إليه. |
ووقف السائل في انفعال وغيظ، ولكن سماحة وجهه تحكمت في الموقف المفاجئ فقالت للمسؤول: |
أيها الأخ ماذا تريد مني؟ |
إن معروق الوجه ظل على حاله هادئاً، وانداحت على فمه ابتسامة خفيفة، وقال له: |
احتفظ بجأشك فإني سأحدثك عن السيد عنكبوت.. فقد لا تعرفه جيداً حتى تستطيع أن تنفذ إلى شأنك غير ملتاث، ولن أبطئ بك..! |
هذا الهراء له بقية تأتي في أوانها. |
|