شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
الحلاق ميشال (1)
الحلاقون مشهورون في كل أنحاء العالم وبكل لغة بأنهم قوم ثرثارون.. وهناك مسرحيات عالمية في هذا الشأن.. وفي الأدب العربي تحدث الجاحظ وغيره عنهم بكل إسهاب..
فما إن يجلس الزبون بين يديه حتى يحسبه بوابل مدرارا من الأسئلة.. ثم يتحدث عن الطقس المتلوّن والأحداث المحلية والعالمية إلى غير ذلك من هذر غير مفيد..
ولا يقوم الزبون إلاّ وقد ذهب منه الشطر الصالح من رأسه واختلط الباقي..
أبداً هذا دأبهم على الأيام إلاّ من شذ منهم وهو قليل.
والحلاق ميشال له صالون فخم في بيروت يتهافت عليه الزبائن، ولا يحلق هو بيده إلاّ لشخصية جديدة تفد لأول مرة إلى صالونه..
وعندما دلفت إليه جديداً وسيم الشكل فخم البزة أسررت في نفسي أمراً..
وأنا امرؤ أمقت الثرثرة من جانب الآخرين، أما إذا كانت مني.. فلا مانع..؟؟
جلست على الكرسي فما كاد يدير رأسي ويأخذ عدته حتى أمطرته بسيل جارف من الأسئلة التي لا تتركه يبلع ريقه..
سألته عن حصيله اليومي من عمله.. وعن أجرة صالونه ما مقدارها.. وهل هو متزوج أم أعزب، وكم أولاده، وعن بيته، وأين يقع، وعن أسرته، وهل له أقارب أو أصهار، في سوريا أو مصر.
وسألته هل يحب الفُسَح؟ وفي الليل أين يقضي سهراته.. وهل عنده عقار موروث، وهل يحب الأناقة، وأي الألوان يفضل.. الأبيض أم الأسمر.. وعن الشراب هل يتذوقه، وأي الطعوم يختار في أكله..؟؟ وهكذا من الأسئلة لا تتجاوز شخصه.. ولا أحصيها إلاّ للمثال..
حتى أدرت رأسه قبل أن يدير رأسي.. وتركته يلهث ويدوم وهو يعطي الأجوبة المختلفة السريعة حيناً والمتأنية حيناً آخر.. وكان قد أشعل سيجارة أخذ منها النفس الأول فشغلته عن باقيها.. حتى فنيت رماداً.. وما أشك في أنه كان يعجب في قرارة نفسه من هذا الشخص الثرثار الثقيل الممل المتطفل الذي لا يفتر لسانه هذياناً محضاً.
وكنت لا أميز بطبيعة الحال بين صادق أجوبته وكاذبها.. ولا يعنيني ذلك.
المهم أني قلبت دماغه قلباً مفجعاً.. وتركته لا يستريح لحظة واحدة.. ولا يجذب تنفسه إلاّ متواتراً بشدة.
وعندما أغمد موساه وأمنت غائلتها كنت قائماً فاستأنفت الجلوس.. وتصنعت الجد.. وقلت: أوه يا ميشال نسيت سؤالاً هاماً.. ما هي مهنتك؟!
ففغر فمه أشد فغر رأيته في حياتي.. وصار في وجهه لون لم أره من قبل..
وطفق يردد.. مهنتي.. عدة مرات بلا حساب ولا يزيد إلى أن أشفقت عليه أن يصيبه الجنون، وحينئذ انفجرت في وجهه بعاصفة من الضحك المتواصل حتى لقد رأيته يدير رأسه كل مدار ويهم بالفرار..
وبعد أن أرحت أعصابي قليلاً وهبط مني كل صاعد من أبخرة هذه الأسئلة وأجوبتها على ما فيها من سخف وتفاهة.. تلبثت حيناً ثم نقدته أجرته التي تركها على مكتبه الصغير القائم في زاوية من صالونه.. ولم يكلف نفسه عناء أخذها بيده.. وانصرفت.. وما أرتاب في أنه كان يظنني مخبولاً.. ولعلّه على صواب.
والحلاقون على العموم اُشتهر عنهم حب الفضول والولع بالثرثرة، ولا سيما إذا كان الزبون جديداً طارئاً، فإنه لا يخلص من براثنهم إلاّ مصاباً باختلاط وبلبلة في ذهنه وأفكاره، سامحهم الله وجعل كلامنا خفيفاً عليهم.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :480  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 115 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج