رفاق.. في الطريق
(1)
|
قبل سنين أعدُّ منها ولا أعددها كما يقول المتنبي
(2)
ركبنا سيارة لوري متجهين إلى ناحية من نواحي عسير. وكان بعضنا لا يعرف بعضاً، وحتى بعض اللهجات لا نكاد نفهمها، وكان أثاثنا متوزعاً هنا وهناك، إلاّ "عم ناصر الأعمى" فقد كان حريصاً على جراب قديم يكتظ بشيء ما.. ما هذا الشيء؟ هذا ما لم نعرفه بعد.. |
تحركت السيارة، وأخذ كل مكانه على ازدحام بعض الشيء، ومشينا نحواً من ميل حينما انطلقت صيحة من أحدهم قائلاً: |
لقد نسيت عصاي في المحطة! |
وصرخ أحدهم في وجهه وهو يقول: |
أتريد أن نرجع لأجل عصاك، أهي من حفيدات عصا موسى؟ وضج الركاب وواصلت السيارة سيرها، وتذكرت عندئذ أدباً فخماً دسماً لذيذاً سرده الجاحظ في بعض مؤلفاته عن العصا.. وأحسبه في كتابه "البيان والتبيين"
(3)
! |
وبعد العصر جاء وقت الكيف: الشاي والقهوة، فنزلنا في سهل رملي، وقد امتدت الظلال على بعض الأعشاب والأزهار البرية، فأضحت تتمايل مع خفقات النسيم.. |
ونزل "عم ناصر الأعمى" وجرابه المكتظ في يده، فأخذنا بيده حتى أقعدناه في الأرض. |
ثم تفرقنا.. هذا يجمع رماماً من الحطب، وذاك يبحث عن ثقاب، وهذا يجمع أدوات الشاي والقهوة إلى أن أتى بها.. |
هكذا.. دون أن يعرف أحدنا اسم الآخر.. لم يشتهر بيننا باسمه وجرابه إلاّ عم ناصر الأعمى.. |
وهبّت عاصفة رملية مدوية قبل أن نشعل النار التي احتفرنا لها حفرة في الأرض، وأخذنا نواريها بثيابنا ومشالحنا إلى أن استعرت النار، وعندما كادت تهدأ العاصفة انفلتت صيحة من عم ناصر الأعمى وقال: |
جرابي طار! |
ولم أكن أعرف قبل ذلك أن الجربان تطير إلاّ إذا عددناها من فصيلة الغربان.. |
وتوزعنا نبحث عن الجراب الطائر بدداً، وعم ناصر الأعمى في عويل متصل، وانشغلنا عن عمل القهوة والشاي.. وليس من طباعي على أي حال أن أعثر على الشيء الضائع ولو أنه تحت أنفي.. ولكني بقدرة شيطان
(4)
وجدت الجراب متوارياً في أصل شجرة. أخذت الجراب بلهفة، ولم أعبأ بما يحتوي عليه.. إلاّ أنه كان جراباً ثقيلاً ومملاً في اللحظة التي حملته فيها.. |
وقلت في نفسي: اللعنة على كل جراب في العالم، ولو كان جراب الكردي المعروف.. |
يا عم ناصر خذ جرابك.. قلتها وزفرت، وتنادينا بمثل يا أخي.. يا ولد.. يا عم.. يا صاحب.. حتى اجتمعنا حول النار، وتساعدنا على عمل القهوة والشاي، وهدأنا بعض الشيء. |
وأدرنا أكواب القهوة والشاي على عم ناصر وقد شد جرابه إلى حجره شداً وثيقاً، حتى إذا حان الرحيل لممنا أشياءنا وأعدناها إلى أماكنها وأعنا عم ناصر حتى ركب، وأخذ كل منا مكانه وانطلقت السيارة.. |
كان بعضنا يناول بعضاً من المأكولات الخفيفة "بسكوت، تمر، خبز، كعك"، وما يشبه ذلك، وكنت تسمع للأسنان نغماً غير مؤتلف.. |
كانت المسافة طويلة أمامنا حتى إلى المكان الذي ينبغي أن نعمل فيه عشاءنا على شرف خروف تقاسمنا شراءه في محطة سالفة. |
وكان النسيم ليناً، وبصيص النجوم يغري بكثرة التطلع إليها، وكنا نسمع أواخر أرماق النباتات اليابسة التي تطؤها عجلات السيارة وهي ترسلها إلى أسماعنا يشاركها الخروف ثغاءه بين حين وآخر. |
ونام بعضنا، وكنا نميل على بعض في منعرجات الطريق، وهتف عم ناصر قائلاً: |
يا جماعة أين نحن؟ |
وكان أغلب الركاب من ذلك الصقع الذي كنت أنا ذاهباً إليه.. وأنا أزوره للمرة الأولى.. فلما لم يجبه أحد منهم قلت له مشفقاً: |
لست أدري ولكني أؤكد لك أننا ما نزال نزحف على الأرض! |
فأومأ بيده متذمراً وقال: |
ما هذا الجواب؟؟ |
كنا بعد العشاء وقد مسنا التعب ولاعنا الجوع.. الحاجات الخفيفة نفذت.. ولكن الخروف لا نسمع ثغاءه.. قلنا: لعلّه أعيا فأخلد إلى الراحة.. |
والمحطة التي نحن مقبلون عليها، وسنبيت فيها ونتعشى خروفنا أمست على كثب.. على أنَّا لا نريد منها إلاّ الماء، وما عدا ذلك فليس في المحطة كبير غناء. |
وعم ناصر الأعمى يضغط بجرابه على قلبه.. |
وصلنا المحطة نحو الساعة الرابعة من الليل، فتجاوزناها قريباً من الماء، ثم تواثبنا كأنما نشطنا من عقال، وأوقدنا المصابيح وأنزلنا الحطب. |
ولكن الخروف أي شيطان ذهب به؟ |
قال عم ناصر الأعمى: أين الخروف يا جماعة؟ |
الخروف.. لقد ترك ثغاءه يتردد في أسماعنا وأرسل إلينا تحياته مقرونة بالإجلال، وضحك على شواربنا المفتولة التي تقف عليها الصقور، فتطيل الوقوف.. وطار.. |
فأمست وجوهنا كالحة، وانسدت نفوسنا حتى عن شرب الماء، وقال أحدنا: نعمل أرز بسمن.. |
فما فينا من اشتهاه.. حتى أمزجتنا انحرفت عن سواء السبيل، وكل واحد منا أبدى تجهمه وقطوبه للآخر.. كان كل واحد فينا هو المسؤول عن ضياع الخروف الزميل والمحترم جداً. |
وضحك عم ناصر الأعمى وقال: |
يا جماعة.. والله إنها مسألة عجيبة.. تعالوا.. وفتح وكاء جرابه، ثم أرسله، فإذا هو نوع من التمر الأحمر المائل إلى السواد يسمونه عندهم "الصميل" بفتح الصاد.. |
وقمنا فتناهبناه.. كل منا يحاول أن يستحوذ على أكبر كمية.. |
ولكن ما هذا التمر؟؟ |
تماثيل في الحديد على هيئة التمر لا تعمل فيه الفؤوس القواطع.. |
وتعال فانظر.. |
هذا يلينه على النار.. |
وهذا يرضه بالأحجار. |
وذاك يعمل أي حيلة في أن يزدرد هذا التمر ولو بنواه.. وتفرقنا بدداً، وأنزلنا فرش النوم، وبتنا أسوأ ليلة، وكانت أحلامنا سوداوية نجتر فيها الخروف بصوفه.. |
يا لها من ليلة غريبة يمكن أن تكون الثانية بعد الألف.. |
|