الطاحونة الحمراء
(1)
|
هذا ملهى يقع -كما أتذكر- في نهاية شارع النهر ببيروت، فيه زهور نادرة، وأكشاك مرتفعة على الشارع، وفيه أيضاً ما تطلبه إذا كنت ممن يكتفون بقطعة من البفتيك وكأس من الكوكاكولا؛ وأنا وإن كنت من هذا النوع إلاّ أني لا أكره مع ذلك، وفمي في الضرع أن تمتد عيني إلى مخزن العلف! |
إن الأصدقاء اللبنانيين كثيرون: من الشارع من السيارة من الفندق، بل حتى من ثدي أمه وهو رضيع، وهي صداقة كما ترى ميسورة ويزينها على علاتها.. أنها مفتقر إليها. |
وصديقي هذه المرة أرمني اسمه "توسباط" يرتضخ لكنة أرمنية عندما يتكلم بالعربية، أما أنا فإن الأرمنية ترتضخني -ولا أرتضخها- رغماً عن أني أعرف كل لغات العالم القديم والحديث ولغات المستقبل أيضاً مثل "فاوست" ولكن بدون "مفستوفليس". |
توسباط يا عزيزي شوف لنا مائدة مريحة، ثم لننظر -بعد- في الأمر. |
أفندم.. ودخلنا ملهى الطاحونة الحمراء.. ولكن حمراء من أين؟ إن أنوارها كلها خضراء بالنيون وهادئة وكأنك تجلس وحدك مع نفسك بالرغم من اكتظاظ الموائد من الجنسين. |
وجلسنا.. واستدار "توسباط" إلى الندل -بالدال أو بالذال- لا يهمك وصفق له. وهنا أقف لحظة بالقارئ ليدخل إلى الملهى اثنان -فتى وفتاة متخاصرين أمام هذا الحشد كله من رواد الملهى، ثم انتحيا ناحية وجلسا قريباً منا. |
كل طلباتنا قد حضرت.. والتفتّ أنا بدوري إلى "توسباط" وقلت له: إن هذين يذكرانني بالعاشق التاريخي "كازانوفا" وأول عشيقة له "تيريزا أيمر"! |
لقد كانت هي مثل مهرة "آخيل" أما هو فكان فارهاً فارع القامة كأنه "سكاب" حصان العربي الذي يقول فيه من قصيدة: |
أقلي اللوم إن سكابِ علقٌ |
نفيس لا يعار ولا يباعُ
(2)
|
|
ونسيت أن أقف بالقارئ لحظة أخرى -وإذا تعب القارئ فليقعد لأقول له: إن توسباط هذا خريج الجامعة الأمريكية في الآداب! |
وانبرم علي توسباط، وقال وهو يضحك في استغراب مذهل: |
- عجيب هل تعرف "كازانوفا، وتيريزا أيمر وآخيل" وكيف؟ وأين قرأت قصصهم وأنت لا تعرف إلاّ العربية؟ |
- أنتيكة!.. يا توسباط العزيز ألا تعلم أني ماهر في قراءة الغيبيات وهي أنك ستكون بعد دقائق في داركم العامرة؟! |
وحاسبنا الندل، وشددت بيده وقمنا ثم قال لي: بالله أين تعلمت؟ |
وامتلأ رأسي من هواء الغرور وانتفخ أنفي من هواء.. الهواء؟ |
وحسبت أني رئيس مدرسة ابتداعية في الأدب الحجازي -أو السعودي- وكلتاهما حلب العصير كما قال حسان بن ثابت
(3)
. |
ومشينا سوياً ثم قلت لتوسباط ونحن على مقربة من الفندق: |
- توسباط يا عزيزي هل تعرف الحجلان، قال: وما الحجلان؟ وهو يضحك. |
قلت: أن يمشي كل منا على رجل واحدة. |
- وماذا نفعل بالرجل الثانية؟ |
قلت له: نضرب بها سلاماً للمغرورين. |
ورفع رجله من ناحية، ورفعت رجلي من الناحية الأخرى.. كما لو كنا نرقص "الباليه" في فرقة "المركيز دي كويفاس". |
وهبطنا إلى "ساحة البرج". |
ومن هناك في بيروت أو في غيرها ينظر إلى سواه في الشارع؟ كل امرئ ذاهب في شأنه وما من أحد يلتفت إلى أحد، ثم هيا للنوم يا توسباط فغداً إلى "زحلة" أليس كذلك؟ |
|