لبنانيات |
برمَّانا
(1)
|
ارفع الراء وشدد الميم، فهذه هي "برمّانا" التي تبعد عن بيروت نحو 31 كيلومتراً، ويبلغ ارتفاعها 800 متر. |
ونزلت من الفندق إلى ساحة البرج لأرى أمامي مئات من السيارات الأجرة الصغار. |
تعا يا عم هون. تعال هون يا عم، وين بتريد؟ واخترت إحداهن، ومعلوماتي عن السيارات مثل معلوماتي عن الأطباق الطائرة تماماً، على أني اندفعت إلى داخلها من خلف وقلت له: إلى برمانا خيي. |
- تكرم عيناك، بمد النون، واللبنانيون مولعون بالمد، حتى في ما لا مد فيه ولا.. جزر! مثل ولع المصريين بالقصر. |
وتأملت سائقي في المرآة التي أمامه، فرأيته قد تجاوز الأربعين، طويلاً جسيماً على شيء من الوسامة، وكان نظيف الحلة مهندمها، وسيارته جديدة أو كالجديدة من التماع ألوانها، وهو يخلخلها في شوارع بيروت المزدحمة بآلاف السيارات بلا نظام. |
عندما اجتزنا نهر بيروت تيامنا إلى محلة اسمها "مرعش" أكثر سكانها أرمن. |
قلت له: ما اسمك يا أخي؟ فقال: حسن إمام، درزي، وهذه السيارة ملكي، وأنا أنفق بها على زوجتي وأولادي وأمي، ونسكن في الأشرفية في شارع.. ورقم منزلنا.. ولي أختان وأخ واحد و... |
وهكذا استعرت نار الثرثرة في لسان صاحبي إلى حد أني أحسست بحرها يلفح وجهي على المقعد الخلفي. |
قلت في نفسي: حسناً. سؤال واحد، وألف جواب، ما أتعس ليالي شهرزاد على طولها.. وعندئذ قاطعته كما يقاطع جورجياس فلاسفة اليونان العظماء بسفسطاته الفارغة، وهتفت به قائلاً: ولكن ألا تعلم من أنا؟ |
- لا يا سيدي، إني أتشرف. |
- أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
(2)
!
|
وأبصرته وهو يحدق فيَّ من مرآته، وقد بدا على شيء من الاستغراب لحظة ثم قال: هل هذا اسمكم الكامل؟ فقلت له: أوه. كلا إن هذا الحرف الأول فقط من اسمي، ولو كتبت اسمي بأكمله لاحتاج ذلك إلى عدة صفحات تستغرق ساعات كثيرة. |
والتفت إلي وقد خلا الدرب أمامه، وقال: إن هذه القرية الصغيرة اسمها "عين سعادة"، وهي تستمد ماءها من عين اسمها "البحصاص". |
ولم أتركه يمضي، ولكني مضيت أنا قائلاً: |
ثم هل تدري يا عم حسن أن لي هنا بلبنان أحباباً وأصدقاء كثيرين على كل ذرة من ثرى لبنان؟ |
بيد أن "عميلي عميل" إذ انطلق ضاحكاً وهو يقول: |
طبعاً. طبعاً. لا بد أنهم بعدد حروف اسمك الذي.. |
وفهمت بقية كلامه خطفاً، وتذكرت بيت الخنساء: |
ومن ظن ممن يلاقي الحرو |
ب ألاّ يصاب فقد ظن عجزا
(3)
|
|
على أني لبست من جلود الجواميس أصفقها، وضربت كفاً على كف وأنا أقول: |
آه يا عم حسن، لقد كان لي هنا صديق اسمه "اشمنذر" كان يقيم في صيداء، وكان الحاكم في كل لبنان.. ألاّ تعرف اشمنذر؟ |
- لا والله يا سيدي، هل كان يحكم قبل إده، قبل الدبَّاس
(4)
، متى كان يحكم يا.. عفواً لقد نسيت الاسم. |
- لا أهمية لذلك. قل لي متى عهدك بحليب أمك اللذيذ؟ |
وضحكت في سري عندما رأيته ينظر إلي أكثر مما ينظر إلى الطريق أو أداة القيادة، وقد اختلفت عشرات التعابير على وجهه، ثم قال: |
حليب أمي؟ يلوح لي يا سيدي أن شمسك اليوم قد أشرقت منذ منتصف الليلة الماضية، هل تهوى المعابثة؟ |
وزويت ما بين حاجبي حتى لتراءى لي أن حجاجي الأيمن قد ركب على حجاجي الأيسر، قلت: |
- ليسامحك الله، لقد كان لي أيضاً صديق في صور اسمه "حيرام الأول" وكان من أشهر ملوك زمانه! ولقد كان.. |
وكنا قد خلفنا "بيت مري" وهناك بعض المواقف المؤقتة للسيارات، وسقطت مني مجلة انحنيت لالتقاطها، فإذا به قد أوقف السيارة واستدار إلي، وفي محياه ما يشعر الناظر إليه بأنه سقط في بئر، ولم يصل -بعد- إلى قعرها، وقال لي بلهجة لبنانية صميمة: |
- اسمع سيدي أنا ما بعرف هايدي اللي بتقولو، شو؟ شعزر معزر، فصحت به مصححاً: |
اشمنذر، اشمنذر. لقد كان لي صديقاً صدوقاً منذ نحو أربعة آلاف وخمسمائة سنة.. ولا أعرف ما الذي حصل بعد ذلك بالضبط إلاّ أنه أدار إلي ظهره وطار.. وقطعنا الخمسة عشر الكيلومتراً الباقية في مثل لمح البصر، وكنت ما أفتأ أرتفع وأنخفض في مؤخر السيارة بين سقفها ومقعدتها، وأهبت به عبثاً أن يترفق، وسمعته يردد كلمته: مجنون.. مجنون.. |
ولم أشعر إلا وأنا على نبع "أبو خليل" أشهر ينابيع برمّانا، وقد وقف على رأسي، ورأيت وجهه يزداد عرضاً حتى لخفت أن يحاذي كتفيه، وتبسم وهو يقول: الأجرة سيدي الأجري! |
وأعطيته أجرته بلا مكاس، ثم ولى عني قائلاً في حدة وانفعال: الله معك، سي شعزار! |
ومضيت إلى صديقي الداعي في برمانا وأنا أردد: |
كتب القتل والقتال علينا |
وعلى "السائقين"..
(5)
|
|
|