المقال بعشرة [ريالات]
(1)
..!! |
خيّل إليّ وأنا أكتب يوماً -ثم إني يقظ لا نائم- أن رئياً أتاني فقال لي: |
اسمع، إن لنا صحيفة حلوة المظهر، ذات قبول عند القرّاء فاكتب لنا مقالاً بعشرة ريالات! |
وحلا لي أن أداعبه، فقلت له: |
إن العشرة يا صاحبي قليلة بالنسبة إلى مقال يُكتب بقلم حسين سرحان، وهو كما تعلمه كاتب مشهور، وشاعر مجيد -كما يقولون- أفلا تزيدها بالله ولو قليلاً!! |
ولكنه قال في تقطيب ومرارة: |
إن أسعارنا محدودة، فلا يهجسن بخاطرك هاجس.. |
ثم ذهب هذا الرئي العجيب، ثم مضيت أكتب بضع صفحات، حتى إذا قاربت النهاية أوشك تيار القريحة أن ينقطع، فوضعت القلم أمامي، وأرسلت الأوراق، ثم هومت. |
ورأيت قبالي طائراً أخضر يرفرف في حلاوة وطلاوة، وبدا لي أن أصطاده، وكان يتأرجح على فنن زبرجدي يمنة ويسرة، فصوبت إليه سهمي -لا أدري كيف جاء هذا السهم في يدي- ولكنه خفق بجناحيه وطار.. ورأيتني أطير معه متابعاً، ولكن على بعد منه غير يسير.. حتى نزلنا بأرض مستوية لينة ذات جانبين أسود وأحمر، وبينهما خط أبيض يقوم حاجزاً في وسطهما! |
نزل الطائر أمامي في الخط الأبيض ونزلت بعده على نفس البعد الذي كنت أطير به وراءه. |
وغشى عيني مثل الضباب ثم انجلى، ورأيت الجانبين أسودهما وأحمرهما يتحركان ويزحفان على بعض زحفاً وئيداً، ولكنه منظم مركز! |
ووجدتني أحمل في عيني الاثنتين عشرات من العيون الحادة القوية تكاد تخترق أكبر سمك من الرصاص مثل الأشعة الكونية في اصطلاح أهل العلم الحديث. |
وعندما تأملت الجانب الأسود وجدته ملايين لا عداد لها من الخنافس السود ذوات أسنان ذهبية لمّاعة.. وتبينت الجانب الأحمر، فإذا هو ملايين أخرى لا حصر لها من الذر الأحمر تلبس جميعها نظارات كهذه النظارات التي يلبسها كثير من الناس. |
وتملكني هلع مفرط، وسرى في جسمي ما يشبه القشعريرة، وتلفتّ أبحث عن طائري الذي قادني إلى هذا المكان العجيب الرهيب. |
فرأيته مع احتفاظه بشكله أطول من المسلة المصرية التي تقوم في ميدان "الكونكورد" بباريس وقلت في نفسي: |
ألجأ إلى ظله وأحتمي به، أو أعصب عيني -أو عيوني على الأصح- فلا أرى هذه الأهوال! |
ولكني، رغماً عن أن كلاً منا واقف في مكانه لا يعدوه، لاحظت أن البعد الذي بيني وبينه يزداد اتساعاً على نحو مزعج. |
وما كاد هذا يحيك في نفسي ويدور هذا الكلام على لساني حتى كان الذي بيني وبين طائري أبعد مما بين الخافقين! |
ثم شعرت بالخنافس والذر يزحف على قدمي ويتسلق ساقي.. |
ولم أشعر بعد ذلك إلاّ من غد صباحاً عندما أخذت جريدة البلاد السعودية فقرأت فيها موضوعي الذي لم أتمه في أول هذا المقال، وقد كتب بعد العنوان. |
|