شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
.. وأدب السندوتش أيضاً! (1)
لا يكاد يوجد في الحجاز إلاّ أدب السندوتش بمعناه الشامل الكامل الذي لا ينقص منه شيء ولا يمكن أن يحتاج إلى زيادة. وهذا الأدب الذي نعاه الأستاذ الزيات (2) على شباب هذا الجيل ووافقه فيه الأستاذ المازني (3) هو أدب ذائب لا طائل وراءه ولا بقاء له؛ لأنه يعدو بسرعة الضوء حتى لكأنما يطرده ألف عفريت يعدو بهذه السرعة الهائلة التي لا يتمكّن معها من إبقاء أثر أو تخليد ذكر أو أداء واجب أو القيام بعمل ما، فهو "كالمنبت" لا أرضاً قطع ولا ظهراً أبقى، وصدق من أوتي جوامع الكلم (4) .
فالأستاذ الزيات لاحظ بدقة وانتباه هذا الداء العقام ووفق في عرضه على الأنظار كل التوفيق، ولقد وصف الأستاذ المازني شباب جيله بما لا يمكن أن يوصف به شباب هذا الجيل الكسلان الذي ولى وجهه شطر الغرب عازفاً كل العزوف عن الشرق، حتى لكأنما سقطت كلمة "الشرق" من قاموسه سقوطاً كلياً، لولا ما تقسره عليه الأحوال الجبارة المروضة بما لا يجوز التبرم به أو الضجر منه من أسباب المعيشة ووسائل الاختلاط ونظم الحياة...
والشباب الحجازي اليوم مقبل على الأدب، ولكن إقبال العابر العجلان الذي يكفيه منه القليل، وما هو أقل من القليل، ثم يأخذ بعد ذلك طريقه غير ملوٍ على شيء، فالأدب! ما هو الأدب؟ هل هو يفيد أو يغذي أو يرجح ميزاناً أو يعلو بإنسان في رأي هؤلاء الناس؟ كلا ولكنهم لا يرونه إلاّ ملهاة يزجى بها الوقت الممل، وتضحك لها النفس العابسة، ولا سبيل إلى صرفهم عن هذا الرأي الذي وقر في أخلادهم، حتى ليكاد يكون عقيدة راسخة لا يتطرق إليها الشك، ولا ينال منها الجدال المدعم بالبراهين، إلاّ بقدر ما ينال قرن الوعل من الصخرة الصمّاء على حد تعبير الأعشى (5) .
وهذه الصحف الأربع أو الخمس -كما ينتظر- التي تصدر في الحجاز لا تنشر إلاّ أدباً متشابهاً متقارباً في الأسلوب والتفكير والغاية، وإذا خاض أحد أدبائنا موضوعاً فجهاداه كل جهاداه أن يلمس ظواهره لمساً رقيقاً ويروح يكتب عنه على حساب هذا اللمس المزيف كتابة مستفيضة، ومنا -بارك الله فينا- من لا يزال ينظر إلى الأدب والأدباء نظرة العاقل الكامل الفاضل إلى رهط من المجانين يهذون ويصرخون في مستشفى واسع، أو -على الأصح- نظرة سليمان بن داود إلى النمل وهو على بساط الريح في مجده وسلطانه والطير صافات فوقه والجن والإنس قيام حوله. ومن أدبائنا أنفسهم من يعيش معنا وكأنما هو يعيش في القرن الرابع الهجري، فآراؤه وطريقة تفكيره ونظرته إلى الحياة والمجتمع وأسلوبه الإنشائي لا يفرقها عن كتَّاب ذلك القرن أي فارق، وآخر مثال على ذلك ما نشره الشيخ الأديب عبد القدوس صاحب مجلة المنهل في مجلته العدد الخامس، وهو أن التعريف الجامع المانع للأدب هو ما حدده مؤرخو الأدب العربي القديم بقولهم: "كل رياضة محمودة يتخرج بها الإنسان في فضيلة من الفضائل"، وهذا التعريف الذي قال عنه الشيخ عبد القدوس إنه جامع مانع (شافع نافع) لا أعرف فيه رأياً أصوب وأقوم من رأي الأستاذ محمد علي الطنطاوي الذي قال: "إنه يبعد عن حقيقة الأدب بعد الأرض عن السماء، ولا يكاد يقول به في العصر إلاّ جاهل بروحه ومقتضياته وبحقيقة الأدب وكنهه" (6) .
فهذا التعريف قد يمكن أن يكون -مع بعض التجوز- رمزاً لتهذيب الطبائع وتقويم الأخلاق، فأما الأدب فهو وإياه على طرفي نقيض، فالقرّاء جميعاً يعرفون في عالم الأدب والفكر نخبة ممتازة من الأدباء المفكرين لا يعنون "بالفضائل" ولا يلقون إليها بالاً إلاّ كغاية مثالية للسلوك الحسن؛ فالحطيئة اللئيم، والمتنبي المتعجرف، وأبو نواس الفاسق، وبشار الخليع، والمعري الملحد، وابن الرومي الهجَّاء، والجاحظ المتلوّن، وأوسكار وايلد السافل، وبيرون المتهتك، وأناتول فرانس الإِباحي، وبرنارد شو الجاحد، وغيرهم وغيرهم ممن لا يحيط بهم المحيط كانوا كلهم كواكب ساطعة في سماء الأدب والفكر، ولكنهم كانوا في الكفة الشائلة الخفيفة من ميزان "الفضائل"، فهل يفهم هذه الحقائق البديهية والوقائع الملموسة حق فهمها أولئك الببغاوات العجماء التي تتظاهر أمام الناس بالمظاهر الخلابة المزوقة من الوجاهة والفضل والوقار وهي من هذه كلها في درجة الصفر إلى اليسار...!
فنحن كما يرى القارئ الحصيف مصابون في أدبنا بهذه الزوائد الدودية والحشرات الطفيلية التي تحيا بحياة غيرها وتعيش على حساب غيرها وهي لا تعمل لا لنفسها ولا لغيرها..!
فكم عندنا من أديب يطفو على سطح البحر يحب أن تصعد إليه اللآلئ فتندس في يده وهو آمن مرتاح، وكم من كاتب يدب على ظهر الأرض كما تدب العناكب والهوام في أغوارها السحيقة وهو مع ذلك طامع يترقب أن تنكشف له الأرض عن كنوزها وتؤتيه ذخائرها هادئاً وادعاً لا يمد لها يداً ولا ينقل إليها قدماً، وكم من شاعر يرغب أن يطير مع العقبان المحلقة والبزاة المرفرفة وهو لا جناح له من خياله ولا وسيلة له من ملكته الشعرية.
وبعد هذا كله لا نزال نحاول أن ينهض الأدب على غير قدمين، وأن يرتفع صرحه على غير أساس، وما أدراك؟ فلعلّ الله أن يتيح لنا معجزة جديدة تحقق لنا أمانينا ونحن نائمون؟!
 
طباعة

تعليق

 القراءات :724  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 83 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج