شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أيام التلمذة..! (1)
عندما يستوقد الإنسان ذاكرته فتسعفه بأقباس درية من أيامه الخالية، يستشعر راحة عذبة ويثوب إلى نفسه وكأنه قد ألقى عن ظهره إصراً ثقيلاً..
وفي أيامنا كانت مدرسة الفلاح -في القشاشية- فانخرطت في سلك تلامذتها من تلقاء نفسي، كان والدي قد ترك لي مطلق الحرية رحمه الله في أن أتعلم وأدرس، وإلاّ فضلت أن أحمل في رأسي طبلاً كبيراً إن قرعته دوى وإن تركته أغفى..
كان مديرها يومئذ -عبد الله حمدوه- غفر الله له، وكان شيخاً عالماً جليلاً مرهوب الجانب، شديد السطوة على الأساتيذ والتلاميذ على السواء.
سجلوا اسمي وسني وكان ذلك حوالي عام 1348هـ فيما أذكر، واختبروا معلوماتي، وألحقوني بسنة دراسية غاب عني الآن رقمها، ولكني أذكر أني وجدت أمامي من الزملاء إبراهيم الجفالي وعلي حناوي وغيرهما.
لم يكن بعد دارنا دار في أعالي المعابدة في تلك الأيام، فكنت أنزل كل صباح على أقدامي، وآكل شيئاً يسيراً من وجبة الغداء، ثم نستأنف الدراسة إلى العصر وأعود أدراجي بعد ذلك إلى الدار، شيء يلمع في ذهني عن تلك الأيام لا تحاولوا إطفاءه.. مع الشكر ذروه في لمعانه.
كان أستاذ الخط حينذاك الشيخ سليمان غزاوي رحمه الله، وعلى أنه قد أوهنه الكبر وأصبحت يداه ترتعشان عند الكتابة، إلاّ أن خطه كان فائق الجمال.
كانت "الريش" بكسر الراء المشددة وفتح الياء -محرمة علينا، وكنا لا نكتب إلاّ بأقلام "البوص" بعد أن نبريها أو تبرى لنا، وكانت الطريقة السائدة في الخط أيامها أن نشتري كراريس "نجيب هواويني" خطاط القصر الملكي بمصر، ونحاول تقليد "الأمشاك" على مختلف الخطوط من رقعة، وفارسي، ونسخ، وكانت الأمشاك تحتوي على حكم تقليدية سائرة وأمثال مشهورة على أن لا تتجاوز مسافة السطر الواحد.
هكذا اسمها "أمشاك" جمع مشك بفتح الأول وسكون الثاني، ولا أعرف معناها إلى اليوم، وأعتقد أن الاسم تركي الأصل.
والذي لا يجيد تقليد المشك يفرض عليه أن يعيده مئات المرات لا يتجاوزه إلى غيره حتى يتقنه أو يكاد، فتجد أحدنا إذا نزلت به هذه العقوبة منعزلاً عن بقية التلاميذ وأمامه أكداس من فروخ الورق وأقلامه يبريها و "يقطها" مرة بعد مرة، ثم يغمسها في دواة الحبر الأسود، وقد نسيت العناصر التي يتكوّن منها ذلك الحبر وكيف كان يصنع؟
سامح الله الشيخ سليمان الغزاوي فقد أذاقني حلاوتها عشرات المرات، ولا أحتاج أن أشير إلى بلادة الطبع المتأصلة فيَّ مع غير قليل من الشراسة.
وكانوا يجرعوننا مئات الأبيات من ألفية "ابن مالك" في النحو استظهاراً مع شرح ابن عقيل عليها.
رضوى يقابلها ثهلان، جبلان ثقيلان، الألفية مضروبة في الشرح، ولكن ماذا نعمل؟
كنا نفترش الحصر الخوصية القديمة، إلاّ من أتى معه بوقاء خفيف، وعيوننا مشدودة إلى السبورة السوداء، وكثيراً ما كان أستاذ النحو يأمرنا أن ترتفع عقائرنا جماعياً بمثل هذين البيتين إن كانا شعراً:
قال محمد هو ابنُ مالك
أحمدُ ربي اللَّهَ خيرَ مالكِ
مصلياً على النبي المصطفى
وآله المستكملين الشرفا (2)
فأين إسحق الموصلي، وأين معبد والغريض؟
يا سلام.. لو نُشروا لقذفونا بكل حجار الأرض، أو لهربوا منا إلى أقاصي التخوم.
وهذا الشيخ الطيب المراكشي يدرسنا الفقه بفروعه الأربعة، ثم الشيخ عمر حمدان أستاذ الصرف، إلى الشيخ محمد العربي مدرس التاريخ.
إنه بحث يطول وتعقد عليه الفصول..
أوه أيها الصحاب أجل دعوا ذهني يلتمع..
وأخيراً ينجلي الضباب عن نسيم عليل يفعم الأنف طيباً، ويرسل الشذى بعد الشذى فواحاً متأرجاً على أثر قراءتي لرسالة أنيقة رشيقة أتتني من لبنان الجميل، من الصنوبر والأرز والشربين والحور، من الأنهار الدافقة والأشجار الباسقة تذكرني فيها كاتبها أخي الكريم إسماعيل غسال.. أجمل الله ذكره وأنجحه في مقاصده.
ليعتبر أخي العزيز هذه الكلمة في أدب الحياة رداً على رسالته الوضيئة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :507  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 60 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذة بديعة كشغري

الأديبة والكاتبة والشاعرة.