كيف أبدأ؟
(1)
|
مكالمة "تلفونية" عابرة في مكتب البلاد بمكة حصلت بيني وبين الأستاذ حسن قزاز بجدة ألحّ علي فيها أكرمه الله أن أتولى الإشراف على الصفحة الأدبية الأسبوعية لجريدة البلاد. |
وبقدر ما حاولت أن أتفلت أو أرجئ النظر في الأمر، ولكن الشبكة كانت أقوى من السمكة. إن الشبكة عمل إنساني متعوب عليه، يرمى في البحر لالتقاط هذه الأحياء الضعيفة دون أي سابق إنذار. |
وبعد، فمنذ سنوات لم أكتب بالقلم إلاّ في حالات لا مناص منها كجداول الرواتب مثلاً. |
حمل القلم أمسى يفزعني جداً كأنه إحدى هراوات معلمي الكتاتيب في أيامنا القديمة عندما كان يروعنا به وأحياناً لا يعجزه أن يضربنا تغمده الله برحمته. |
من يصدق ذلك؟ ومن يخال؟ |
أنا حليف القلم وربيبه ورضيعه ومعتصر أفاويقه أرصعه بالنجوم فيحيلها إلى أكواب من الرحيق، وأرشقه بالأزهار فيحملني بها على أسمى المواكب وأسناها من سواطع الأنوار. |
أجل من يصدق ذلك؟ |
القلم هو القلم إن كان رصاصاً، وإن كان من در مكنون.. لا فرق.. لا فرق أبداً.. الفرق فقط هو بين ما يكتبه هذا القلم أو ذاك. |
إن القلم الذي تفيض أسلته بالتحريف والتزييف، والذي يعطيك صاباً وأنت في أشد حالات آلامك، غير ذلك القلم الذي يبرئ المكلوم، ويزيل الهموم، وتحمر عينه غضباً حتى ينصف المظلوم. |
أراني أطلت والموضوع يحتمل الطول، ولكن لنرجئ ذلك إلى فرصة مؤاتية. |
قال لي الصديق الأستاذ حسن قزاز فيما قال: إننا نريد منك أن توجه الجيل الصاعد في بعض ما تكتب. |
كيف أوجه الجيل الصاعد، وأنا اليوم في حالة هبوط مستمر؟ |
لقد كنت أقرأ وأسهر قبل نحو ثلاثين سنة أو أكثر على ذلك الضوء الخافت المنبعث من ذبالات الفوانيس الهندية المعروفة، ولم يكن هناك من يوجهنا فضلاً عن التشجيع. |
كان هناك مثبطون كثيرون، وكان هناك من يشنقنا أو يخيفنا، ويقذف بالصخور الكبار في الطريق كما لو كان هذا الطريق على تمهيد واستواء، من غير أن يكسبوا احترامنا وإكبارنا.. كانوا في غنى عن تجشمهم قذف الصخور الكبار في طريقنا.. إذ كان لا يفتقر إلى صخور ولا إلى أشواك وفجوات وانحرافات خطرة وظلمات كثيفة.. كان الطريق يهزأ بهم ويمد إليهم لسانه، ويقول لأولئك المثبطين الأغبياء: |
لا تتعبوا أنفسكم أيها الكرام فما أحتاج إلى مزيد.. وبذلك.. بهذه الصفة الواحدة على كل ما أسلفنا كان أرحم من جهنم مع كل ذلك. |
* * * |
ثقل السنين لا يشعر به الفارغون.. هذا صحيح.. ولكن أصح منه أن كثيراً من هؤلاء الفارغين يرومون دائماً أن يطبعوا على هذه السنين أحلامهم الرديئة الصدئة. |
الذين يلهجون بعيوب الناس.. فارغون.. |
وكثيرون من أهل المناصب الذين يريدون إلحاق الضرر بالآخرين فارغون.. ولا أزيد فإن المجال أضيق من ذلك الشوط الطويل. |
* * * |
منذ مدة طويلة لم يعد في المكتبات ما يمكن أن يقرأ لفائدة أو متعة أو إجالة نظر أو اجتذاب فكر.. |
فتراجعت القهقرى.. واستأنفت مطالعاتي القديمة ربما للمرة الخامسة والسادسة للأصفهاني وابن الأثير وابن خلكان وياقوت الرومي وابن العماد، والثعالبي والجاحظ والتوحيدي وغيرهم ممن لا أتذكرهم الآن. |
هؤلاء الروّاد العماليق الذين تركوا لنا ألوف المجلدات.. كانوا يكتبون على الشموع أو على ذبالات النفط، وكان بعضهم يعيش على الكسرة مثل التوحيدي.. كان الواحد منهم يقوم برحلات علمية فيقطع آلاف الأميال، راكباً أو راجلاً في هجير الموامي وفي الحنادس، ربما فقط لتصحيح سند حديث شريف كان عنده منقطعاً أو مرسلاً. |
صدقوني أيها الواجدون بعد الفقدان لكأن أنفاسهم الكريمة تعطّر وجهي، لكأن أرواحهم التي لم تزل تنبض بالحياة وإن ماتوا تجهش إلي في أنفة ومحبة وحنو. |
لكني ما أزال أرى أناملهم المعروقة سقاها الله صوب رحمته ورضوانه ما تزال تخط، وتخط أبداً ثم تخط على تلك الصورة الماضية، وقد بدت على وجوههم النبيلة علائم الإجهاد والإعياء ولكن بدون أي تأفف أو تبرم. |
لا تحركوني.. أجل لا تحركوني.. إني ما أزال أستاف عبير تلك الأنفاس وأنطوي بين كمائمها التي تنفح بالطيب المتأرج وما يزالون ينيرون لنا على مدى القرون من إلهاماتهم شعلاً من القبس المتوهج. |
حياهم الله وأكرم مثواهم ولكن لا تحركوني إلى حين. |
|