طالب علم إلى الموت
(1)
|
كنت قد تكلمت قبل مدة عن الثقافة العربية التي يجب أن يتمثلها ويهضمها الأديب، أديب هذه البلاد على الأخص، باعتبار أنها منزل الوحي وأم اللغة ومصدر الإشعاع للعالم كله؛ فإن الذي لا يتقن ما يلزمه من لغته، ولا يلم بما يحتاج إليه من آدابها وعلومها لحقيق بأن يكون غير نافع لنفسه ولا لغيره، وإن ألمّ بلغات العالم أجمع! |
أما ما ينقل إلى اللغة العربية من لغات العالم الحية في الآداب والعلوم والفنون ومناهج السياسة والتاريخ والأخلاق، فإن المقياس هنا ينبغي أن يتوقف على شخصية الناقل ونوع المنقول ومقدار نفعه لجمهرة المثقفين في الأمة العربية. |
فقبل نحو ثلث قرن كنا نقرأ عيون الأدب الإنجليزي لشكسبير، وويلز، وشو، وهاردي، ووالتر سكوت، وبيرون، وأوسكار وايلد، وملتون. وقد نقلت إلى العربية بأقلام جزلة التعبير ناصعة البيان من أمثال: خليل مطران، ومحمد بدران، وزكريا جمعة، وعباس حافظ، والمازني، وفخري أبي السعود، وغيرهم ممن أنسيت ذكرهم ولا يحصيهم العد. |
فأما هيجو، وإميل زولا، وجيد، وموروا، ولامرتين، ودي موسيه، وموليير، وراسين، وفرانس، وغيرهم من أعلام الأدب الفرنسي، فكنا نقرأ آثارهم الخالدة بأقلام صفوة من أئمة البيان من أضراب: طه حسين، وشكيب أرسلان، وحسين هيكل، والزيات، وفيلكس فارس، وبشر فارس، والصاوي، وحنا خباز، وسواهم. |
فأما الآداب اليونانية والرومانية، ثم الإيطالية والألمانية، فقد كان ينقل المسرحيات والشذور بعد الشذور والروايات، رجال جمعوا بين التعمق في هذه اللغات، وبين جودة الأسلوب العربي المبين أمثال: طه حسين، ومحمود الخفيف، وعبد الرحمن صدقي، ومحمد عبد الله عنان. |
وأنا هنا لم أُعن بذكر الآثار التي تترجم من كل لغة بأقلام الكتَّاب العرب من السوريين واللبنانيين والعراقيين وغيرهم، فلم أذكر إلاّ ما يصدر منقولاً بأقلام الكتاب المصريين فحسب. |
فأما كتب الفلسفة وملخصات التاريخ ودراسات علم النفس والأخلاق وأصول الأجناس ونشوئهم وارتقائهم، فقد كانت لجنة التأليف والترجمة والنشر المشهورة، إلى غيرها من دور النشر الكبرى بالقاهرة أمثال: دار المعارف، ودار الهلال، وغيرهما.. كانت هذه الدور تصدر الشيء الكثير من ذلك على شكل كتب دورية أو سلاسل متصلة بأقلام أمثال: يوسف كرم، وزكي نجيب محمود، وعلي أدهم، وعنان، وسلامة موسى، وعوض محمد، وأمير بقطر، ومشرفة، وفوزي الشتوي، وغيرهم ممن يخطئهم كل حصر. |
وكان الشعر العمودي السليم القوي الآسر المتين الديباجة مزدهراً، والإقبال عليه منتشراً، فكنا نقرأ لشوقي، وحافظ، ومطران، والزهاوي، والرصافي، والجارم، والكاشف، ومحرم، وغنيم، والخوري، والطرابلسي، ومردم، وأنور العطار، ونسيم، والشبيبي، والكاظمي، والخطيب، إلى آخر تلك الطبقة المجيدة التي لم تخلّف مثلها إلاّ في ما ندر. |
ولم نرزأ في زماننا ذاك بقراءة هذه الأبعار التي تسمى أشعاراً، ورحم الله "صُرَّ دُر"
(2)
ذلك الشاعر الفحل، فلقد كان مظلوماً حينما قال فيه هاجيه، وهو أحد معاصريه: |
لئن لقَّب الناس قدماً أباك |
وسموه من شحه صُرَّ بعرا |
فقد جئت تنثر ما صرَّه |
عقوقاً له وتسميه شعرا
(3)
|
|
إن هذين البيتين ليصدقان على شعراء هذا الزمان من قباني إلى سياب إلى بيَّاتي، إلى عشرات من الضفادع نقوا نقيقهم واتبعوا طريقهم. |
وكنا نقرأ من الصحف: الرسالة، والثقافة، والهلال قبل أن ينحط، والمقتطف، والمنار، والزهراء، والسياسة الأسبوعية، ثم الكاتب المصري، والكتاب، والغد. |
ولم تصعد إلينا بأنوفها القذرة صحف هذه الأيام الشوهاء، وكنا خلال ذلك نقرأ ترجمة البستاني شعراً للإلياذة، ثم قرأناها فيما بعد نثراً مع الأوديسا بقلم دريني خشبة. |
وقرأنا فيما بعد مترجمات للأديب الفارسي من آثار: السعدي، والشيرازي، والفردوسي، والخيام لأمثال الصراف والزهاوي، وعزام. |
وكنا نقرأ للشاعر التركي الكبير نامق وشاعرة تركية نسيت اسمها مما كان يترجم عنهما وعن غيرهما من شعراء الأتراك. |
فأما الأدب الروسي العظيم، وخاصة قبل الثورة البلشفية، فقد نسيت أسماء الكتّاب العرب الذين نقلوا إلى اللغة العربية روائع: تولستوي، وجوركي، وتورجنيف، وديستويفكسي، وهاتز بياشيف، وغيرهم. |
وأود أن يعلم القارئ أني أكتب هذا في مكتب صحيفة البلاد بمكة، وليس لي أي مرجع، وأني إنما أستل أسماء هؤلاء الأعلام من الذاكرة. |
وقد سبق أن قلت (أو لعلي لم أقل)، إني ما أزال أعتبر نفسي طالب علم إلى أن أموت، وإن أداة القراءة من كتاب أو مجلة لا تسقط من يدي إلاّ لعمل أو نوم، حتى إني لا أعفي نفسي من القراءة في حالات المرض الشديدة، وهي حالات وفيرة ولله الحمد. |
|