المعلم الأول
(1)
|
سيتبادر إلى ذهن القارئ أني أعني أرسطو، ولكني لا أعنيه ولست من مريديه! |
وإنما أعني المعلم الأول الذي شدوت على يده القراءة والكتابة البدائية، وأنا طفل، غرارتي تكاد تقطر من ثيابي، لا من أطراف أناملي كما يقولون. |
أُدخلت عنده، فرأيت لعامي أطفالاً وأيفاعاً تتراوح أعمارهم ما بين التاسعة، والثامنة عشرة، ولهم ضجيج وصخب في قاعته الضيقة التي تقوم خلف دكانه، فقد كان له دكان فيه عطارة مختلفة. |
وكانت ثيابي أخلاقاً، فإني من قوم يتواضعون حتى في ملابسهم، ولم أبلغ التاسعة يومئذ، ولكني أكاد أشارفها. كنت منذ طفولتي نحيفاً نحيلاً، وسمعت صخب الأولاد، فانجذبت إليه، وبدا علي الارتياح والسرور، فقد كنت أظنهم يلعبون ويعبثون. |
وقال المعلم الأول مجدي يرحمه الله: |
دعه يدخل إلى العيال.. ودخلت منصلتاً لأشاركهم لهوهم وعبثهم، ولكن سرعان ما خاب ظني كبرق سحابة التوى ثم انطوى! |
كلهم أيديهم شدت إلى وجوههم: هذا يحمل لوحاً، وهذا يحمل مصحفاً، وذاك ينوء بدفتر يضعه تحت أنفه.. وعلمت أن هذه اللعبة غير معقولة ولا مقبولة، ولكن أحدهم تنحى بإشارة من المعلم، فتهالكت إلى جانبه حزيناً! |
كان المعلم -يرحمه الله- حضرمي الأصل وكان اسمه "با عوضين"، ولو كان يستغني بالعوض الواحد لاكتفى بالتعليم دون الدكان أو بالعكس، ولكنه أخذ بكليهما، فهو إذاً أبو عوضين اسم على مسمى، لولا أني علمت -بعد ذلك- أنه أبو أعواض كثيرة لا تحصى. |
وكل شيء أعواض، والدنيا أعواض -وأقصد بالأعواض جمع عوض إن كانت اللغة تسمح بذلك- فالصبا عوض عن الطفولة، واليفوعة عوض عن الصبا، والشباب عوض عن اليفوعة، والشيخوخة عوض عن الشباب، ونقيس على ذلك فنقول: إن الموت عوض عن الحياة -إن كان في الموت عوض! |
للمعلم في كل يوم خميس من كل أسبوع قرش من كل تلميذ لقاء الحرص عليه والاجتهاد من أجله، وذلك غير ما يتقاضاه من أثمان الألواح والدفاتر والمصاحف والمداد والأقلام. |
وهناك ما هو أشبه بالحجر الأبيض المتفتت يسمى "المضر" تبيض به ألواح الخشب التي يكتب عليها للتلميذ هجاء وسورة، وعلى القرّاء أن يسألوا ما هو هذا "المضر" فإني لم أعلم -مثل سيدنا سليمان- منطق الطير! |
وأخذت "الأبجدية" فاكتسيت ببجاد من الغفلة ما يزال يعاودني إلى الآن معاودة الشوق الموقد. |
ولبث المعلم أبو عوضين ينتهب منا نقودنا، ويسومنا سوء العذاب، وكان جباراً قاسياً، منحرف المزاج. |
كان قد وضع ثلاثة أسواط مما يسمى "المقط"، وليسأل الأستاذ عبد القدوس الأنصاري عن اسمه الصحيح في اللغة العربية. |
كان أحدها خفيفاً، واسمه [الرحمة]
(2)
-أقسم بالله أن اسمه كان كذلك- وكان الثاني وسطاً، واسمه "الغضيب" من الغضب -ولست بمسؤول أصحّ ذلك أم لم يصح لغة- أما الثالث فاسمه "النقمة"، وهو اسم عريق الأصل في اللغة، وكان أثقل أنواع "المقط" نسجاً وشكلاً. |
وكان يفعل بنا ما يفعل مالك بشارب الخمر ضرباً وإيجاعاً، وكانت هذه الأمقاط تأخذ من جنوبنا وظهورنا مكانها المؤلم المميت. |
ولم يكن يبدو عليه -وهو يضربنا- أي تأثر أو تقزز، فكأنه يضرب نعاجاً، لولا أن النعاج قد تستطيع أن تهرب، لكنا لا نستطيع الهرب من تلك الغرفة الضيقة المغلقة الأبواب. |
قال لنا يوماً: اسمعوا يا أولاد أتعلمتم أم لم تتعلموا، فهذا لا يعنيني، وإنما يهمني أن أعلمكم حسن الأدب، وطيب السلوك. |
وقد قال حقاً، فإنه كان لا يعرف شيئاً، فكيف يمكن أن يعلمنا شيئاً؟ |
وكنا في أيام كثيرة الغيوم، وطالما خرج "قوس قزح" بين الغمام، فيقول لنا: انظروا! هذه الجنة، وهذه النار.. ما هو أخضر فهو الجنة، وما هو أحمر فهو النار! |
وأي كلام أصدق من هذا الكلام، وأي علم أعمق من هذا العلم؟ إن الجنة لخضراء، وإن النار لحمراء، بطبيعتها ولا شيء بعد ذلك. |
اللَّهم إنا نسألك الجنة، ونعوذ بك من النار، يا رحيم يا غفار. |
كنا نصخب بهذا الورد، ونردده أيما ترديد. |
وكان يقف مناوحاً للقبلة، ويقول بشدق أكثر من شدق "عوج بن عنق": |
كل ما أمامكم فهو غرب، وما وراءكم شرق، وما أيمن فهو شمال، وما أشمل فهو جنوب! |
فأين أعلام الجغرافيا السخفاء! |
وفي يوم من أيام الأخمساء لم آت بالقرش الموعود، فأخذ "النقمة" وطفق يلهبني به، في حيثما يقع، وظللت أستغيث فازداد، واستنجدت فسيطرت عليه نوبة عصبية، وانهال علي انهيالاً فظيعاً، وكان بيدي لوح من الخشب أتهجى به الأبجدية، فقذفته به على صدره ولذت بأركان الفرار، وأنا أتهجى وأقول هجاء: |
جنصبح -جـ -جـ -أهزمه -أهـ -رفع ل -ل -جهل! |
لم أعد إلى أبي عوضين، بعد أن أخذ مني أعواضاً، وتركني بعد الكل أبعاضاً. |
|