مانيكان
(1)
|
منذ ثلاثة أشهر بدأت محطة الإذاعة -ولها الشكر- ترسل إليّ برنامجها الشهري، والواقع أني أميل نظرياً إلى قراءة البرنامج، بدلاً من أن أستمع عملياً إلى نفس البرامج حين تذاع. |
وليس ذلك لما يقع من الأخطاء النحوية، واللغوية والتعثر، ورداءة بعض الأصوات فقط، ولكن لأني استمعت مرة إلى نفسي فيها فصدمت صدمة مريرة جعلتني أعزف عن الاستماع إليها مرة أخرى. |
إني لا أنكر سقم صوتي ورداءة إلقائي، فقد أنذرت الزمخشري
(2)
بذلك، ولكنه أخذ النذير مأخذ البشير، واعتقد أني أضن بصوتي الرخيم وإلقائي السليم كما يضن بذلك مصاقع الملقين وأعلياء المغنين!! |
ولست أدري كيف لاح لي الصديق الزمخشري في ثوب "المانيكان"؛ ذلك الثوب المغري الخلاّب الذي لا يبهر الأنفاس فقط، ولكنه أيضاً يجتذب العيون والقلوب. |
ومن المعلوم أن "المانيكان" عندما تعرض على المتفرجين أزياءها الجديدة الأنيقة، فإن المتفرجين -ولا سيما الرجال- لا ينظرون إلى هذه الأزياء بمقدار ما ينظرون إليها هي بالذات. |
إن الزمخشري -بدون زي أنيق- مانيكان بارع جذاب -ولا بأس بضمير المذكر هنا- وفوق ذلك ساحر ماهر ما في ذلك شك. |
وجلّ أصدقائي الخلصاء يعرفون أني دابة بحرية أنطوي في قوقعتي ولا أخرج من ضحضاح بحري إلاّ لشم النسيم لحظة ثم أدب أدراجي إلى ذلك الضحضاح المريح. |
على أن الزمخشري ما كاد يكلمني بالتلفون، ثم يزورني بنفسه -على جلالها- حتى علقت بوجهه فأطلت التحديق، ثم وجدت في نفسي دبيباً، وفي جسمي تخديراً لا أعرف مأتاه، وسرعان -هكذا بلا مقدمات معقولة- ما امتطيت سيارة الإذاعة، وانطلقت فيما يشبه مدارج الذر في أزقة مكة الضيقة وأرهقنا صعوداً إلى الجبل الذي تتوركه المحطة بارك الله في غاربها وسنامها! |
وبعد تمهيد وتدريب لا بد منهما، وتجريب للصوت ارتفاعاً وانخفاضاً في تلك الغرفة العجيبة، استطعت أن ألقي -ولست أدري كيف؟- على زلزلة في قدمي ورعشة في يدي وتهيّب غريب مع الأوامر الصارمة بأن لا أسعل ولا أتنحنح ولا يُسمع للأوراق أي صوت. |
ومهما يكن من أمر فقد انتهيت على شرق في الريق وضيق أي ضيق، وجاء بعد ذلك الأستاذ مهندس الصوت -إن كان هذا اسمه- فهنأني وأتبعه بالتهنئة الأستاذ الزمخشري، وأسمعوني في الحال صوتي كاملاً، فكان واضحاً حسناً لا غبار عليه، حتى لقد فكرت بيني وبين نفسي أن أطوي القرون القهقرى
(3)
فأزاحم الموصلي ومعبد والغريض في مهنتهم.. حتى ولو كانت تلك المزاحمة على طريقة "جحا" في الحمام! |
وفي الموعد المضروب استمعت إلى نفسي فيمن أستمع إليه على قلتهم.. فيا للخيبة المطبقة..! |
لقد أقفلت الجهاز فوراً.. وقلت: |
كلا. ليس هذا صوت إنسان يصح له أن ينتسب إلى أبي البشر عليه السلام.. إنها أصوات أمواج أو عواصف أو ضجيج معامل، إلاّ أن يكون ذلك (الصوت) الذي أنكره الله العظيم في القرآن الكريم! فهذا جائز! |
ألا ترى أن الزميل الزمخشري يصلح أن يكون "مانيكاناً" إذاعياً فريداً؟! بقطع النظر عن جماله من دمامته، وعن أناقة هندامه من غثاثته، وعن جدة "زيّه" من قدمه! |
إني أقدمه للقرّاء مثالاً بارعاً لهذه الصورة، وإن كنت أرجو في قرارة نفسي ألاّ أستعرض هذا "المانيكان" بعد الآن. |
|