شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
سحر البادية (1)
تتقاسمني طبيعتان بدوية وحضرية، وإن تكن الطبيعة البدوية علي أغلب، وأنا إليها أميل، وبها أعلق.
وقد كنت في صغري أرعى البهم وأحش الكلأ من ثمام وسفواء، وأحمل القرب وأرد الماء في بياض النهار، أو في سواد الظلماء، وكنت أخوَّف -يومئذ- بالسعالي والغيلان، ويأتينا طرَّاق من جفاة الأعراب، فيزعمون أنهم رأوها، وتطارحوا معها الشعر، وركبوها بالدعابة، ويأخذون في وصفها فنزلزل من الرعب، وتخفق قلوبنا بين أضلاعنا من الهلع، ونغطي عيوننا حتى لا تتخايل لنا من بعيد أو من قريب.
وكنت -إذا أرعى البهم- أثب على شعف الجبال كأني وعل أعصم، وآكل ما يؤكل من أحرار البقول التي تخرجها الرياض الفيح في الفلوات أروع إخراج، والتي نسيت أسماءها الآن.
وكنت أحمل على ظهري قُرَيْبة صغيرة تسمى "سعناً" بكسر السين وسكون العين، فيها ضياح من ماء ولبن، فكلما اشتد عليّ الظمأ، حللت وكاءها وجعلت فمها في فمي، واشتعفت منها جرعات روية، حتى إذا خضبت شمس الأصيل بمثل النجيع القاني، وتبدت رؤوس الجبال وأعالي التلال كأنها ألسنة من اللهب الأحمر المعصفر، صرخت في البهم:
تاح.. تاح.. فأهطعت برؤوسها، وجاءتني وثاباً، [وتقدمتها] (2) ، وطفقت (أتاحي) لها إلى أن أدخلها في حظائرها.
وللبكرة والأصيل والليل في البراري معانٍ غير معانيها في الحاضرة، فإنك في الحاضرة لا ترى الشمس -إن تفضلت فنظرت إليها- إلاّ من خلال البيوت المتراصة وفجوات الحيطان القائمة كأنها السدود، فتراها -عندئذٍ- مثل دينار البخيل بدا حاجب منها وضنت بحاجب (3) ، أما في البر الواسع الشاسع فإنك ترى هذه الأشياء على أبهى ما ترى طبيعة وجمالاً وجلالاً.
فترى السراب الخادع وقد اصطفق فوق الرمال، كأنه يعزيها عن الحقيقة بالخيال، وترى الرمال، وقد حملته ورقرقته، وأخذت تدنيه وتقصيه، وترفعه وتخفضه، حتى ليكاد الإنسان كلما دنا منه أن يشمّر عن ساقيه، ويعبره خوضاً.
فإذا أضواك الليل، وتموجت أمامك الكثبان العفر، رأيتها وهي متباعدة كأنها متقاربة وكأنها تشترك جميعاً في نجوى عذبة، ورأيت النجوم تشعشعها بالضياء فوق طرائقها الملساء، وتحدجها بعيون تكاد تتساقط فيها الأنداء.
الكثبان والنجوم تلك تلتصق بالغبراء، وهذه في أجواز السماء، ولكنك تراها في الليالي القمراء، كأنها تدني من بعضها أقرب إدناء، وتتلامس منها الأنوار والأفياء، فما يعييك لو سبح بك الخيال المجيب أن ترى الكثيب في النجمة أو ترى النجمة في الكثيب!
وإذا الشمس ألقت خمارها في الصباح، وتجلى الأفق الشرقي في لازوردية مفضضة مذهبة، رأيت الأطيار تتواثب على ذوائب السلم والطلح والبشام، ورأيت الأرض من أنجاد وأغوار، وكأنها تتحرك وتوصوص بعد غفوة الليل الطويلة، وترى السفوح، وكأنها انفصلت لتوها عن الجبال وارتدت إلى مكانها المنخفض بعد أن كانت تطاولها في الظلام الذي لا فرق فيه بين شمم الجبال ورؤوس الآكام.
وأخذوا العلاب، وقاموا يحلبون سحاً بعد إبساس، وانطلق السوام يلتمس سمته المطروق إلى المراعي الخصيبة، ونهض الرعاة في أيديهم العصي، وعلى ظهورهم "سعونهم" بما فيها من ضياح أو لبن صراح. حتى إذا متع النهار رأيت النساء -ما عدا العذارى- وقد احتزمت كل واحدة منهن بحبلها المجدول، وتسابقن إلى الاحتطاب والاحتشاش، وأبصرت العذارى، وقد نهضن يداورن الشمس بجوف الأخبية شمالاً أو جنوباً، ثم أوقدن النار للطعام أو القهوة والشاي.
وتهب نسمات المساء البليلة بما تنفح به من عبق النوار، وأرج الأزهار، وتؤوب الماشية، وقد اكتظت بطونها، واشتغلت فحولها بالنطاح والكدام، فيأخذون في الاحتلاب والاغتباق، والعشاء، ثم يتفرقون زمراً إلى السمر على الرمال الميثاء الباردة، ولن تعدم طلقة هنا بعد رصاصة هناك، تدفع بها الذئاب عن مرابض الأغنام.
وترى الكلاب تنصلت من بين الأطناب وتحوم على الحظائر، وترسل النبحة تلو النبحة كلما شمت رائحة ذئب عاد، فإذا الذئب يلتمس النجاة ممعناً في الفرار.
حياة البادية جميلة جد جميلة، لأنها حرة أي حرة. إنك هناك تفعل ما تشاء بلا أمر، وتأمر من تريد بلا زجر، وأي قيمة للحياة إذا كان الإنسان لا يستطيع أن يعيش فيها حراً ملء ثوبه.
وأنت -بعد- سيد الراعي، ولكنكما في الليل ندان لا يتمايزان، وها أنتما بعد العشاء تتحدثان وتتعابثان، فلا فرق بين راع وسيده.
حياة البادية، هي الفطرة الخالصة النقية الصحيحة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :740  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 50 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج