بعودة.. يا سيدي
(1)
|
إن أكلي وشربي وملبسي ومضجعي مكفول بعون الكريم، ولكن ذلك لا يعفيني من حمل خمسة ريالات يومياً لشراء الصحف وضمان بعض ما يهدأ به المزاج، وغالباً أرجع بنصف هذه الخمسة أو بثلثيها، وفي اليوم النادر الذي أنفق فيه هذه الخمسة جميعاً؛ أعود إلى الدار في حكم "المستشهد" مستحقاً الرحمة والغفران من الله تعالى! |
إن هذه الأشياء النادرة توجع حقاً، فلو أنها تأخذ صفة الاستمرار وتنفي عنها صفة الندرة لوطنت النفس، وهوّنت الأمر، وزاولتها كالعادة التي يشوب إيجاعها المؤلم بعض اللذة العابرة، ومن يهن يسهل الهوان عليه كما قال أبو الطيب
(2)
. |
على أن مما أمجّد الله به، وأسبح له بحمده أن ستره علي دائماً مسدول الحجب، وواكف نعمائه عني غير مقطوع الصبب. |
وفي ثاني يوم من أيام التشريق بمنى أخذت في يدي ريالات لا تتجاوز العشرين بحال، وأخذت لي مكاناً في مقهى يناوح الجمرة الوسطى، وطفق الحجيج ينهالون عليها رجماً من كل صوب، وبدأت أشمت بالشيطان في سري، وما ضرني لو أعلنت وقلت له في سري أيضاً: |
انظر يا رجيم إلى أي مكان ينحط دركك عند أعدائك وأصدقائك على السواء.. ولا مراء أن هناك كثيرين ممن يرجمونك ظاهراً، ويتبعونك باطناً، ولكن أليس هذا دليلاً على أن لعنتك ساحقة إلى أبد الآبدين؟ |
ولست أتذكر على التحقيق من هو الذي قال هذه القولة الخالدة الحكيمة: إن بين من يرجمون الشيطان من هم أحق بالرجم منه! |
وكنت قد طلبت من القهوجي "برَّاداً" ذا أربعة أكواب وشربة "قلة" زهاء المكحلة من الماء، ونهضت قائماً، وقلت: كم حسابك يا أخي؟ |
فنظر إلي في ضراعة ممزوجة بخبث كامن وقال: |
ريال.. ريال فقط يا سيدي! |
وسمعت لأنفاسي ما يشبه الزفير والشهيق، وصحت به: |
ريال.. أتقول ريال؟ هل أنت صاح؟ |
فسجل نفس النظرة الأولى، مضيفاً إليها بهارات من الابتسام؛ و [توابل]
(3)
من انحناء خفيف، ولم يزد على أن قال: |
بعودة.. بعودة يا سيدي! |
فقذفت إليه بالريال وقلت: |
كلا.. لا عودة.. إنه بدء مهلك، ولا عودة إن شاء الله على هذا الهلاك! |
وأحسست بجوع فذهبت إلى مطعم متواضع وطلبت طبقين أو ثلاثة، وليس معقولاً أن تقدم إليك الأطباق خالية، فمن المفروض (أو المحتمل) أن يكون الطعام المطلوب موجوداً في الأطباق، وشككت وخامرني وهم عجيب، على أني في النهاية استطعت أن أحدد موضع الأكل من الأطباق وعثرت عليه كما عثر "أرشميدس" على مفقوده المستعصي؛ فأما الأرز فتستطيع أن تعده واحدة واحدة، وأما اللحم فإنك تحصي قطعه الثلاث على بعد أميال، وتحمد تضلعك الغزير من علم الحساب. وأكلت مثل السنور مغمضاً عيني ودسست يدي في جيبي، وقلت كم الحساب؟ |
وكان صاحبي هذه المرة "إندونيسياً" فاصفرت أسنانه، وارتعشت شفتاه، ووضع كلتا يديه على صدره، تلك الطريقة التي يحسنها سكان الجنوب من شرقي آسيا، وقال: |
أربعة ريالات! |
وكان يخرج العين الحلقية من أقصى حنجرته على تكلف واستكراه، ولم أستطع أن أقول شيئاً على الرغم من خواء بطني المحتج، ونبذت إليه بالريالات الأربعة وسمعته يقول وأنا خارج: |
بعودة إن شاء الله، ولم يسمعني وأنا أقول: كلا لن أعود.. لا يمكن أن يموت الإنسان مرتين! في ضحى يوم واحد. |
ما يباع بخمسة يباع في منى بخمسة وعشرين. |
وما يؤخذ في غير منى بعشرة يؤخذ فيها بخمسين! |
ولا ريب عندي في بركة الحج وقدسيته، ولكن الريب كل الريب أن تتناول بركة الحج أثمان الأشياء فتجعلها تتصعد هذا التصعيد المنكر. |
إنا لو حلقنا في سماء هذه الأثمان لسقطنا محترقين! |
مستحيل.. أجل مستحيل أن أعود أنا شخصياً إلى مثل هذه المجزرة. |
قولا ما تريدان فلا "عودة" إليكما يا سيديّ فيما يقبل من الأعوام إن عشت، وإن مت فإلى جنات النعيم إن شاء الله! |
|