شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
قيمة الإنسان (1)
عندما يُملق الإنسان يستطيع بسهولة أن يحكم على الأشياء حكماً صحيحاً، ويصبح في طوقه أن يضبط مقاييسه للأشياء ويأتي بها دقيقة محكمة، فإن انتفاء المادة عنه قلت أو كثرت يرفع الغشاوة عن عينه، ويجلو الرين عن قلبه، ويجعله ريَّق النفس صافي الذهن سليم الخواطر مصقولها.
ولست أقول ذلك كما يقوله أي إنسان يشتهي فقط أن يملأ الهواء والأوراق بالكلام، ولكني أقوله عن علم بعد أن بلوت هذه الحالة مراراً عديدة وخبرت الإِملاق أيما خبر!
وما أزال أذكر بيتاً لي من قصيدة قديمة أقول فيه:
وعلامة الإملاق أن تصبو إلى
باب فيقفل عنك ذاك البابُ (2) !
وخير ما في هذا البيت -إن كان فيه خير- أنه يصور حيرة المملق المفلس ومدى تردده وخيبة تلدده! وقد كان العرب يقولون: إن فلاناً خالي الوفاض بادي الأنفاض، أو صفر الوطاب خلو الإهاب، ويكادون يقولون -لولا الحياء- إن جلده فارغ حتى من العظم واللحم كالأنبوبة تصفر فيها الريح!
وحقيق بالمترب المعدم أن يقال فيه كل شيء، وألا [يستكثر] (3) عليه أي وصف مذموم أو نعت مشنوء، وهو قمين أن ينبز بشر الألقاب ويهال عليه -وهي حي سوي- ألوان التراب.
على أنه من الخير للإنسان لو كان من الذين يعلمون أن يبلو الإِملاق ويقصد ذلك ولو مرة واحدة فإن العوز جد، لا هزل فيه، بل هو جد من أخبث شكول الجد وأبشعها وقعاً في النفوس.
وليست الفاقة على أي حال بمطلوبة في ذاتها، ولا هي بالتي تغري بالوقوع فيها واستمراء طعمها ذي العلاقم الزقومية! ولكن لماذا ننظر إلى أهل الفاقة وهم ملايين فلا نكاد نحس لهم ركزاً؟
وما بالنا نبصر في غدواتنا وروحاتنا الخماص الجياع، فلا نستشعر أدنى شعور بالحدب عليهم والشفقة بهم؟
لقد مضت علي أيام كنت لا أملك فيها قرشاً ولا ريالاً، ودعك من الذهب، فلست من عجوله التي يعبدها بنو إسرائيل وغير بني إسرائيل.. مضت هذه الأيام، فعرفت عندئذ نفسي، وتكشفت قيمتي -كإنسان- لعيني شر تكشف، كانت قيمة لا تقدر بثمن؛ لأنها أتفه وأحقر من أن يقدم فيها أي ثمن ولو كان سجلاً من ماء أو جردلاً من تراب!
كانت قيمة العرض الذي ليس له جوهر يقوم به.. قيمة الإنسان السيئ الحظ الذي رفعت العصابة عن عينه، فإذا هو مقذوف على أثباج البحر أو ملقى بين أنياب الوحوش ومناسمها!
لقد كانت قيمة خسيسة موجعة.. إنها قيمة المريض الهزيل الطريح بين أناس كلهم أصحاء أقوياء عُداة!
كذلك قيمتي في نفسي، فما بالك بقيمتي عند الناس، وهي شر من ذلك أضعافاً مضاعفة!؟
كل باب أمامك موصود، وكل مهيع أمامك مسدود، وأنت كالغريق في يم مظلم لا تملك حتى خشبة تتعلق عليها بالنجاة!
يا غني يا حميد.. قلتها دون أن أعلم أو أشعر، قذفت بها ظلمات النفس على أضواء اللسان، فكان لها بارق صادق هوَّن علي كل شيء وصحح عندي كل القيم والمعايير المزيفة المضللة الكواذب!
وأحسست براحة عميقة.. راحة الذي لا يأسف على شيء ولا يتحسر على مفقود؛ لأنه لا يستشعر لذة الملك، حتى يحس بألم الفقدان!
كل ما في الدنيا، وما تدركه الحواس جميعاً وما يلاحقه الخيال عاد في نظري لا شأن له ولا نفاسة فيه، ولا حرص عليه. أصبح كل شيء عندي ينكر وجوده ويسخر بنفسه؛ لأن الوجود الحي الذي لا يأخذ ولا يعطي ولا يتفاعل ولا يؤثر ولا يستجيب للتأثر.. هو وجود أفضل منه العدم المطلق!
الحكمة والأدب الرفيع، والرأي السديد، والنفس الجميل، والخيال المحلق، والشعر الرائع، والحسن الباهر، والأمثلة المعنوية المحتذاة، وبلاغات الألسنة، والخلق القوي، ما هذه كلها؟ يا لها من قبور رامسة لم ينفض بعد عنها ترابها!
يا للسخافات، يا للتفاهات، ويا لنا من جهلة حمقى مساكين!
إن سعلاة الفاقة، وغول الفقر، ووحش العوز، وهولة الجوع، لترتع منا في أخصب المراتع وأفضلها، وإن رائحة الجلود المحترقة لتصافح أنوفنا وتفغمها كأنها الند والمندل الرطب!
وإنا لنكشر أسوأ التكشير ونحن نحسب أنا نضحك أحسن الضحك، فتتناثر اللآلئ الكريمة من ثغورنا المؤشرة.
وقد تخطر على البال -في مثل هذه الحالة المريرة- أجنحة فراشات تسمى صداقات ومروءات ومكارم، فاعلم ولن يسرك هذا أنها فقاقيع فقاقيع.
وأعلم أن هناك سحباً تروي الظماء بنمير الماء، ولكنها لا تمطر أبداً إلاّ في كل منتجع خصيب، وأنها مثل هنبقة لا يستطيع لفدامته أن يصلح ما أفسد الله، أو يفسد ما أصلح الله، ولا ينبغي لك أن تعيد السؤال أو تطيله في غير مطال!
إن الشبع هو الطوى في أدق معانيه وكل ما بينهما من فرق، موجزه أن المعي هنا منطوٍ ملتوٍ يابس، وأنه هناك معتدل مكتظ ريان! أرأيت؟ ما أتفه الفرق اسمعوا وعوا.. ولكن واأسفاه لقد مات قُس بن ساعدة، ولا يجوز أن يكون له خلف في مثل هذا الزمن الأنكد.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :525  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 25 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الدكتور زاهي حواس

وزير الآثار المصري الأسبق الذي ألف 741 مقالة علمية باللغات المختلفة عن الآثار المصرية بالإضافة إلى تأليف ثلاثين كتاباً عن آثار مصر واكتشافاته الأثرية بالعديد من اللغات.