في موكب الموت الجميل
(1)
..! |
غربت شمسه عندما أشرقت شمس يوم جديد، ولم يكن في بيته غير زوجته وجويرية اشتراها تبلغ السادسة من عمرها، فقد كان عقيماً يرحمه الله، وارتفعت موجة من النواح والنحيب سرعان ما خفتت حينما أمروا بالسكوت والبكاء في صمت، وطفقت الجويرية تلعب وتعبث وتقفز في أنحاء الدار. |
ما أحلى غرارة الأطفال! |
ألا ما أحلى غرارة الأطفال! |
وخفت أن تنهر فأخذت بيدها ودفعت بها خارج الدار مع لدات لها، وقلت: |
العبي هنا، واقفزي، وسيحي ما تشائين! |
وخرج النعش مجللاً من المعابدة فيممنا به شطر المسجد الحرام، وحملت أكتافاً يسيرة، ثم أرحت نفسي وانتحيت جانباً، وتركت عينيَّ تدوران كل مدار ما تتبين لك النقائض والمفارقات في الحياة وفي الناس كما يتبين لك، وأنت تسير في غبار جنازة، إنك هنا مشدود بين ساريتين.. الموت وهو متعلق بأذيال الجنازة مرفرف في سمائها، والحياة التي تضج وتزخر في حيثما وجهت طرفك هنا وهناك. |
الحوانيت والدكاكين على أقدامها وسوقها. |
والناس غادون رائحون في كل متجه، والباعة وهم يصيحون على بضائعهم في اختلاط عجيب، وصبيان المنازل والحمالون، وهم يحملون الخضار واللحوم وما إلى ذلك لوجبات الغداء في كل بيت، وأحلاس المقاهي على الأيمان والشمائل وهم ينهلون الشاي والقهوة في عكوف مميت. |
والسيارات وأبواقها -وهما شر ما في الأمر- كأنك تشهد مسابقة دولية للسيارات في إحدى نواحي لندن، عشرات وراء عشرات، من صغريات وكبريات، ذاهبات آيبات. |
وأخلاق سائقي السيارات خليط متنافر نقيض من أخلاق شعوب الأرض جميعاً، إن أكثرهم يستمر على سرعته، فلا يرعى للموت حرمة، وإنه ليلجئ الجنازة وحامليها إلى أضيق مكان، إنه يطير بجنون ليكشف سر الأطباق الطائرة. لقد كادت الجنازة عدة مرات أن تسقط على الأرض.. وجنود المرور يتفرجون! |
ولكن الأقل من السائقين أسلم ذوقاً.. فمنهم من يقف حتى تمر الجنازة.. ومن يتلبث في السير حتى يفسح لها المجال، ومن يعوج بسيارته إلى اليمين أو إلى الشمال، ورأيت أحدهم أدار سيارته ناحية، وهبط منها، وحمل أكتافاً ثم عاد. |
وما يزال في أهل مكة -حرسها الله- خير كثير، فإن الكثيرين من أهل الدكاكين، ومن روّاد المقاهي يتركون أعمالهم، وينطلقون مشاركين في حمل الجنازة والمشي في غبار الأجر والثواب خطى واسعة ثم يعودون. |
والمشيعون على أنماط، وقد انقسموا إلى جماعات يهبط بهم اثنان، ويرتفع بهم أكثر من ذلك، ولن نعدم فيهم من يقهقه ومن يكتفي بالابتسام تأدباً وأحاديثهم في المهن المعايش ذوات اطراد رائق. |
أهل الميت فقط -وأنا منهم- هم الذين ما [فتئت]
(2)
مسحة الحزن تشرق على وجوههم، وأقول تشرق وأنا أعني ما أقول، فإن إشراق الحزن لا يدركه، ولا يحس بلذعته إلاّ من فهم كل الفهم أن أفراح الدنيا وأتراحها لا تدوم وأنها لا تزيد عن [سمادير]
(3)
-حراحيه ستنطمس بالموت- في النهاية أجمل انطماس! |
قبل ساعات كان معنا بجسده وروحه، ثم أصبح معنا بجسده فقط، ثم استتبعت روحه جسده فكأنه لم يكن. |
وسنذكره حيناً ثم ننساه ثم تعاودنا ذكراه بين حين وآخر ثم ننساه إلى النهاية. |
خيط دقيق ضئيل بين الحياة والموت، لقد انتقل من عالم إلى عالم، في عداد الخمسة آلاف الذين يودعون دنياهم إلى أخراهم من سكان الأرض في كل ساعة من الزمن.. هذا الزمن المدمر المضني. |
|