شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
أنت وولدك (1)
لا أريد أن أدخل بين الآباء وأولادهم، فإن عندي من عناء أولادي ما يكفيني ويزيد عن حمل أي عناء غيره، ولا أحب دراسة نفسية الطفل، ولا أحسنها، فإن دراستي لنفسيتي شغلتني عن سواها، ولكن هناك حقائق أولية فيما أظن تصلح أن تكون أسساً مكينة للمعاملة الدائمة بين الوالد وولده.
إن أصغر الآباء سناً لا بد أن تفصل بينه وبين ولده -على الأقل- عشرون عاماً، فما بالك بمن بينه وبين ولده ما يشارف نصف قرن أو يربو عليه، وهو بعد ذلك يريد -بعنف وجهل- أن يأخذ ولده بعاداته وأخلاقه بعد تلك الأعوام الطويلة، وقد نُسب إلى الإمام علي كرم الله وجهه -أو إلى غيره، فلست أذكر الآن- أنه قال: "لا تكرهوا أولادكم على عاداتكم وأخلاقكم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم" (2) .
إن الذي يمضي على ولدك في شبابه ليماثل أو يشبه على التحقيق ما مضى عليك أنت في شبابك، فهل تريد أن يتخلق في شبابه بمثل وقار أخلاقك في شيخوختك؟
إن هذا غير معقول، فضلاً عن كونه غير ممكن أيضاً، ثم لنفرض أنك كنت إسكافياً أي خرازاً (أنا الخراز يا سيدي فلا تغضب)، أفتشتهي أن يكون ولدك وأبناء حفيدك وما بعدهم خرازين إلى الأبد كابراً عن كابر؟
وقد تدعي في كبرك أنك كنت في صغرك من سكان السماء في الفضيلة والورع والاستقامة، وقد يكون ذلك حقاً، وقد لا يكون -على الأرجح- ولكن لو كنت تعرف في قرارة نفسك أنك كنت على عكس ذلك، أيحسن بك أن تنسج ولدك على غرارك؟
ولقد جدت في الدنيا مهن جديدة وكثيرة، فلو طبقنا المثل العامي "صنعة أبوك لا يغلبوك" (3) ، وبقي ابن النجار نجاراً وابن الحداد حداداً، وهكذا إلى ما لا آخر له، فأين يكون مكاننا في قافلة البشرية؟
لا ريب أن حسن النية متوفر عند الآباء، وأن كل أب يريد أن يكون ابنه شجاعاً فاضلاً صادقاً، ولكن حتى هذه الأشياء ليست في يد الإنسان، وإنما الناس ينساقون مع الزمن والجو ومع الأقدار أيضاً في اتسامهم بمختلف المياسم، وتوزعهم بين محاسن الأخلاق ومساوئها.
لقد رأيت أبناء فضلاء لآباء خلعاء، ورأيت عكس ذلك، ولا شك أن لله في ذلك حكمة بالغة، علمها من علمها، وجهلها من جهلها.
وإذا اسودَّ عذار ولدك ثم ابيض كذلك، وأنجب لك أحفاداً فلماذا تفرض عليه حكمك؟ وتسلكه في منهجك؟ وتريد أن تطبعه بطابعك في كل شيء؟ أنت تعاشر الشيوخ، فتريد أن يعاشرهم، وأنت تلبس "الدوت" (4) وتريد ألاّ يزيد عليه، وأنت تتهجد وتقوم شطراً من الليل وتصوم ربع العام -غفر الله لك- وتريد أن يفعل مثلك. إنه حقاً لو فعل لكان ذلك أبقى له وأجل به، ولكنها فوق طاقته، وقد قال البارئ المصور: لاَ يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ (5) .
ولا مراء أن الوالد سيسوؤه إذا رأى من ولده شذوذاً في سلوكه أو اعوجاجاً في أخلاقه، ولكن ولده قد شب عن الطوق (مثل عمرو الذي لا أعرف من هو؟) (6) ، أفيمكن جلده مثلاً أو يجوز توبيخه على رؤوس الأشهاد؟ فليس أمامه إذاً إلاّ أن يسدي إليه النصح، ويأخذه بالموعظة، ويحذره من عواقب فعله، وسوء سمعته، وليس له في الآخر إلاّ أن يستر عليه، ومن يستر عليه إن لم يستر على ولده؟
وعلى الولد إن كان كيّساً عاقلاً أن يسارع إلى مرضاة والده وخدمته بنفسه في كل شيء، وقضاء حوائجه، ولا أحتاج أن أذكر ذلك، وإن كنت قد ذكرته فعلاً، ولكن الولد مدين لأبيه على الدوام، فلن يخرج من ربقة فضله ما بقي فيه ذماء من حياة.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :561  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

عبدالعزيز الرفاعي - صور ومواقف

[الجزء الأول: من المهد إلى اللحد: 1996]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج