أوحال فكرية
(1)
|
لعلّ أصدق تعريف للأوحال الفكرية، هو أن يكون الإنسان دائماً في ظلمات حالكة من أفكاره ويكاد يحمل في دماغه رجلاً كلما رفع قدمه من الوحل الفكري سقط فيه بأشد من سقطته الأولى، وساخت كلتا قدميه في طين لزج من تفكيره. |
فالأوحال الفكرية هي ارتكاس الذهن وبلبلة أمره، وتقهقره من أخراه إلى أولاه، كلما أوشك أن ينتهي إلى النتيجة من كل معضلة فكرية. |
وأنا امرؤ من حسناتي -وما أضألها- أني أعترف دائماً بأخطائي، ولا أدع الناس ينبهونني إليها تفضلاً منهم أو تعالياً، ولكنني كلما أخطأت بادرت بمحاسبة نفسي أعنف الحساب حتى لكأنني مع نفسي في يوم العقاب..! |
ولا أوحل من فكر إنسان يعرف في قرارة نفسه أنه مخطئ أو ضال ثم يذهب في مغالطة نفسه ومكابرة الناس كل مذهب. |
هناك بخيل لا يشك لحظة في أنه كذلك، فتأتيه الجوقات المطبلة من كل جانب، وتقول له: إنك تفوق في الكرم حاتم الطائي.. فيظل يصدق الناس في الظاهر ويكذب نفسه في الداخل.. فهذا وحل فكري!!! |
وهناك جبان يعرف جبنه خيراً مما يعرفه غيره فيقال له: إنه لا الأسُود ولا التنانين، ولا المردة ولا الشياطين، تستطيع أن تثبت أمامك، فيكاد من فرط فكره الموحل أن يطير ليقاتل أولئك جميعاً..! |
وهناك رذل من الأرذال؛ يتظاهر بالفضيلة وهو يدرك جيداً أنه يعكس وضع نفسه في مرآة المجتمع، فهل هذا إلاّ وحل فكري شديد؟!! |
وهناك وهناك، وهنا وهنا، وما أكثر ما هناك، وما أغزر ما هنا! |
ولكن يجب أن نفهم ما هي دراسة النفوس البشرية واستقصاء بواعثها، والتغلغل إلى أعماقها قبل أن نسرع كما يفعل كثير من الكتَّاب إلى إطلاق الأحكام الارتجالية الخاطئة؛ فإن منهم من لا يفرق بين مركب النقص وبين العقدة النفسية، ومنهم من لا يميز بين العقدة النفسية والحالة الواقعية، ومنهم من لا يشعر ببعد الأخيرة عن الصدمة العارضة التي تطرأ فجأة ثم تزول، وكل هذه أوحال فكرية يقع فيها جمّ غفير ممن يكتبون بجدارة وبغير جدارة في هذه المواضيع العميقة العويصة. |
ولا مراء في أن كل إنسان يحمل في نفسه مركب نقصه، ويتعرض للكثير من العقد النفسية التي تصيبه وترسخ جذورها فيه منذ طفولته، ثم لا تزول أبداً. |
وطالما فكرت في أن أكتب -مثلاً- روايات أو أؤلف كتباً، أو أتناول موضوعاً، أو أنظم شعراً، ثم يعترضني وحل فكري يوهي مروءتي، فيصدني عن كل ما أروم. |
وقد أتعرض لشيء بالذم، فما أشعر في آخر الأمر إلاّ وأنا قد أسبغت عليه كل آيات الثناء، وقد يحدث عكس ذلك، فأنا مثلاً لا أرفع رجلي من وحل إلاّ لتسقط الأخرى في حمأة فكرية أشد وطأة من تلك. |
وقد تسوؤك حالة من الحالات، فيزين لك وهمك أن الحالة سارة أبلغ السرور، وتصدق بفعل الإيحاء الذاتي، أو إيحاء التيار العام، وليس أشنع ولا أفظع من هذا الوحل الفكري الذي تنزلق إليه وليست الأسباب واحدة، فلو كانت كذلك لهان أمرها، وسهل علاجها، ولكنها متعددة ذوات شكول وشعب، فمنها ما سببه الطيبة أو الغفلة أو الحيرة أو المغالطة أو المكر أو الجهل، إلى ما ينطوي وراء ذلك كله من بواعث النفوس ورواجم الظنون ووساوس القلوب. |
أوحال فكرية تثنينا عن كل سديد في الرأي، وتصدنا عن كل مُتَّجه من الأمر وتعوقنا -قاتلها الله- عن شريف الغاية والإسراع إلى النهاية في كل ما اختلفت فيه الأذهان والأقلام ورواجح الأحلام. |
|