شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
ذيل الطاووس (1)
للشهرة ثوب مثل ذيل الطاووس براق الألوان لمّاع الأفواف، كلما انعكست عليه أشعة الشمس ازداد ألقاً وجمالاً، وللطاووس -أو للمشهور مثلاً- ألف عذر عندما ينظر إلى ذيله ويثني عطفه، ويرجع الطرف كرة بعد مرة إلى هذا الذيل -أو الثوب- دون أن يمل رؤيته أو يشبع منها.
وكلنا يريد الشهرة بكل وسيلة من الوسائل، وإنه لكاذب كاذب ذلك الذي يزعم أنه يمقتها أو يزهد فيها، وقد كنت من عشاقها المدلهين قبل أن يخضر عذاري -يا له من عذار- فلما اسودَّ هذا العذار أو ابيض -لا أدري- أصبحت بعد ليلة واحدة مشهوراً على الأقل في وطني وبين عشيرتي، والحق أني نلت الشهرة من أبوابها الخلفية، أعني من الأبواب الخيالية التافهة التي لا تستطيع إلاّ أن تربط على بطنك حجراً لو أنك اكتفيت بها لبلوغ عيشك أو اتخذتها ذريعة لازدراد لقمتك، وأعني بالأبواب الخلفية، أبواب الأدب والشعر والفن، وكل ما تنفضه هذه الريشة الحمقاء مما يقال عنه: إنه غذاء للأرواح وزاد للعقول وإمتاع للقلوب!
ولم أستطع أن أبلغ الشهرة من أبوابها الأمامية المرعبة فإني أخيب من أن أكون مشهوراً في الثروة أو سعة النفوذ أو حسن الإدارة أو جلال الشخصية، كلا! لست هناك، ما دام دون ذلك صراع وهول ومكابدة وانزلاق على الرغام، وسحب على التراب كما فعل "أخيل" ببطل طروادة "هكتور" بعد أن جندله.
ولم أصبح مشهوراً لكتاب ألفته، ولا لديوان أصدرته فأثار ضجة في الأوساط الأدبية وأثنت عليه الصحف وتبادر الكتَّاب والنقاد إلى تقريظه، فإني لأعجز وأنكل عن ذلك، وإني لَكَما يقول رئيس تحرير هذه الجريدة (2) : "أقف على المحطة، والفتيان الجحاجح قد ركبوا وفاتوني". فللَّه دره، لقد أحسن في وصفه وأساء إلى موصوفه.
ولكني نلت ذيل الطاووس بدليل أن كثيراً من الناس يسألونني عن رأيي في كتاب صدر، أو ديوان طبع، أو شاعر أشرق نجمه، وقد يركبني شيء من الغرور، وقد أنظر طويلاً إلى "ذيل الطاووس" في خيلاء ودلال وأقول رأيي الذي هو القول الفصل -كما أخال وأترقب مؤلفاً كيّساً (مثل الميداني) ليجعل من أقوالي "مجمع أمثال" آخر!
إن الأديب حيثما كان لمخلوق تافه، وإن طريقته في تفكيره وتناوله للأشياء لحقيقة أن تقوده إلى الجنون الوشيك، فأين يقذف بنفسه هذا الذي ما يفتأ يكظّ رأسه ويملأ ذهنه بآلاف الألفاظ والعبارات الجوفاء حتى يكاد ينفجر مثل القنبلة الذرية، ولكنه لا يحطم إلاّ نفسه بدلاً من أن يدمر مدينة يابانية مثلاً!
هناك من يملأ فناءه بكرائم الأنعام والسيارات، وهناك من يملأ بيته بنفائس الطنافس، وهناك من يترع خزائنه بأعلاق الذهب والفضة، فأين يذهب هذا الأديب المحمق المرزوء؟
ألفاظ ينسجها الأديب من بطنه مثل العنكبوت ثم يمد رواقها على نفسه، فإذا هو محبوس فيها يحور ويدور، ولا يقدر على الانفكاك منها.
فما أعظم فجيعتنا في أعمارنا حينما اعتصرناها في اصطياد هذه الألفاظ الأوابد.
إن الإنسان الذي يملك سيفاً مذهباً مرصعاً بفرائد اللآلىء ولا يعرف للسيف إلاّ هذا الاسم فقط، لهو أسعد وأرشد بلا ريب من الأديب الذي يحفظ للسيف مائة اسم من أمثال المهند والجراز والعضب والصمصام إلى آخر هذه التفاهات! وهو لا يملك قطعة من الفضة!
جالت هذه الخواطر في نفسي في يوم قائظ استمتعت فيه بنسمات لطاف عذاب، واستروحت فيه بنفحات عبقة منعشة من شعر الصديق الأستاذ حسن عبد الله القرشي في ديوانه المونق "البسمات الملونة" (3) ، ولست أدري ما علاقة هذه الخواطر بمثل هذا الشعر اللذيذ الجميل؟ لولا أن القارئ لا يفقد في هذه الخواطر بسمة قبيحة كالحة إزاء تلك "البسمات الملونة" التي تفتر عنها ثغور الحسان من عرائس شعره لتعطينا الشيء الكثير من إيناسه وبشره، مع الاحتشام اللائق والترفع المطبوع، والتسامي -حتى في غزله- عن السفاسف والأوضار، والأدب النفسي الصحيح الذي يرتفع بشعره صعداً إلى السحاب دون أن يتوقل في ارتفاعه وتحليقه على دعائم واهية من اللمز والتجريح والقعقعة والتعالم المزيف.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :510  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 12 من 144
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ خالد حمـد البسّـام

الكاتب والصحافي والأديب، له أكثر من 20 مؤلفاً.