أهل الجوع
(1)
|
للجوع حرقة نفسية لذيذة في كل نفس يسمها الله به، رضا عنها أو رحمة بها أو إشفاقاً عليها. |
والجوع يلوع كل نفس، حتى نفوس الأغنياء والعظماء عندما يضربهم السفر بوعثائه، أو يتأخر عنهم الطعام لأسباب اضطرارية، فأي إنسان لم يذق في حياته -ولو مرة واحدة- تلك الحرقة النفسية اللذيذة. |
وأفضل مخلوق نفخ الله من روحه وبرأه بيده، هم الأنبياء والرسل، وقد أنعم الله عليهم بضروب شتى من الجوع على مختلف شكوله، وكان من أهون ما ألم بهم وخامرهم جوع البطون!! |
وجوع البطون عند أهل العقل الكامل من الرجال، هو أحقر الأجواع وأتفهها وأجدرها بعدم المبالاة وإن أفضى إلى الموت الوشيك. |
ويا رحمتا لأولئك الضعفاء المترفين الذين يتناولون وجبات طعامهم في مواعيد محدودة في صنوف معينة. يا رحمتا لهم، فإنهم ضعفاء مترفون، لا يدركون حلاوة اللذة التي منها يحرمون! |
والأجواع أنواع.. |
فمنها -بالقياس إلى الأفراد- الجوع النفسي، والجوع الذهني، والجوع القلبي، والجوع العصبي، ومنها -بالنسبة إلى الحواس- الجوع النظري والسمعي إلخ... |
ذلك غير الجوع في الشعوب والأمم، وهو جوع يتحدر إليها من أعمق أعماق جذورها، ويتغلغل في دمائها على كر العصور، وما أحسب أن هناك انقلاباً تاريخياً، أو حدثاً ذهنياً، أو فتحاً علمياً أو انسياحاً من إقليم إلى إقليم، أو موجة بشرية من شعب إلى آخر، إلاّ وهو يصدر في أخفى ينابيعه وأدق أسبابه عن جوع عميق عميق. |
والجوع فردي بالنسبة إلى الفرد، ولكنه بالنسبة إلى الأمة مجموعات من الأجواع ذوات أنواع، تختلف وتأتلف، وتتباعد وتتقارب، وتتضاد وتتحد، حتى تتغلب على الجميع أغلبها سمة، وأقواها عنصراً وأبرزها أثراً، وأمضاها إلى ما تريد قدماً فإذا بتلك الأمة تهدر بفيوض من الحيوية وتجيش بضروب من القوة التي تمليها الحاجة الملحة، وإذا هي تنساب أو تندفع إلى ما حولها.. كذلك فعل الهكسوس واليونان والرومان والعرب والغال والتيوتون والسلاف، وغيرهم من الأمم التي أسبغ عليها الجوع نعمة القوة، ودفعها إلى بلوغ الحاجة والتزوّد بأدسم الأزواد وأغناها في الحياة. |
ولما كانت الحياة تدافعاً وتنازعاً، أحلت السرقة للجائع في أغلب الأديان والقوانين بما يكفي لإشباع شهوته الصحيحة، ما لم يبلغ به جوعه إلى التهالك والإعياء. |
انظر إلى الجوع الذهني. تالله ما أعجبه وأروعه من جوع جميل! ذلك لأنه جوع القرائح والأذهان، جوع العقل الفياض، الذي ينشد الاحتكاك بالعقول الفياضة، ولا يشبع ولا يمل المزيد. |
لسنا ندرك سر هذا العقل جرماً أو جوهراً، ولا نعرف أين يتبوأ عرشه من رؤوسنا أو قلوبنا؟ ولكنا نعرفه أتم المعرفة بأثره الذي لا ينقطع، ومعينه الذي لا يغيض. |
إن الإنسان (الكامل) ليقرأ ويقرأ، ولا يجد من نفسه منصرفاً عن القراءة، فكلما تفتح له أفق جديد طمحت عينه إلى ما هو أجد وأفسح، وكلما بلغ ذروة من العلم تشوف إلى ما هو أعلى وأرفع، وما يزال يسعى ويسعى، وضروب المعرفة أمامه تتسع وتتنادح، فما أشبهه -لله دره- بمطارد الخيال أو مسابق الظلال، لولا ما يجد من انفساح نفسه وامتداد أفقه، واكتظاظ ذهنه بالأذهان، وارتفاد عقله بالعقول، العقول القديمة والحديثة التي سعت مثله وألحت في الانصلات، وأفرطت في جوعها ونهمها، إلى أن انقطعت بها حبال الآجال. |
ماذا بلغ أرسطو؟ |
وماذا أدرك فاوست؟ |
كل شيء -لا العلم وحده- محيط لا تتلاقى عليه العيون ولا ترتوي منه النفوس، ولا تحد منه الآفاق. يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ فَانفُذُواْ لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ
(2)
. |
صدق الله العظيم! إن الإِنسان لا يستطيع أن ينفذ من أقطار نفسه ومطامعها وآرابها، فما بالك بأقطار السموات والأرض؟ |
هذه النفس الإنسانية الجائعة المنهومة دائماً وأبداً تجوع إلى الرخيص وإلى الغالي، وتتشوف إلى الحقير والعظيم، وتريد أقبح الأشياء كما تطلب أجملها، ولا تشبع من كل ذلك على السواء. |
لا تشبع إلاّ من التراب، وصدق الصادق المصدوق الذي قالها
(3)
، فما أعظم هذه النفس، وما أحقر مآلها! |
|