بسم اللَّه الرحمن الرحيم |
بين يدي الديوان |
ظللت أسأل نفسي، عدة أيام متوالية، قبل أن أخط كلمة واحدة من هذه السطور.. من أين أبدأ الحديث عن أستاذي محمد سعيد العامودي؟ وكيف أبدأه؟.. |
وإني إذ أقول (أستاذي)، فأنا أعني ما أقول.. فإنه وإن لم يكن لي شرف التلمذة على يديه مباشرة.. فإنه لم يفتني، مع نفر من جيلي.. أن نتلقف أدبه وكتاباته.. وأن نوثق به الصلة ليكون لنا نعم الموجه والمرشد والمعين.. حينما كنا في دنيا الأدب والكتابة، زغباً لم ينبت لنا ريش بعد.. |
أما مردُّ حيرتي.. في اختيار الطريقة التي أبدأ بها الحديث عنه، والكيفية التي أبدأ بها.. فلأن أستاذنا العامودي، نمط فريد من الرجال.. فقد أخذ من أدب النفس بأوفى قسط، لا تكاد تطرق باباً من أبواب الخلق النبيل، إلاّ وجدته فيه مثالاً يحتذى.. يتسم بما شئت من سريرة نقية، وخُلُق سوي، ووفاء للأصدقاء، وصدق في القول والعمل، وكرم في النفس واليد.. وبشاشة في اللقاء.. |
هذا العامودي الإنسان.. |
أما العامودي الأديب والشاعر، فهو الموهبة الأصيلة، تنعكس عليها كل تلك الخلال، فتجعله صاحب أدب ملتزم، ينبع من دينه، وقويم خلقه، وصفاء نفسه، ونقاء سيرته وسريرته.. |
أعلم أن هذا الكلام سيغضبه.. ولكن.. |
ولكني أقول حقيقة يجب أن تقال، لنودعها أمانة لدى التاريخ.. سيغضب الأستاذ الكبير لأنني تحدثت عنه.. عن خلقه أطريت ثم لم أتحدث عن أدبه.. ولا عن هذه الرباعيات التي بين يدي.. مخالفاً بذلك ما أراده.. فقد أرادني أن أكتب نقداً محضاً، وقد حضَّني -كما هي عادته في تواضعه- أن أدل -كما يقول- على مواطن الضعف فيها.. |
أما النقد والتقديم للرباعيات، فقد تولاه الأستاذ الناقد الدكتور محمد رجب البيومي، فيما يرى القارئ من كلمته التالية.. وأنا أعلم -علم اليقين- أن الدكتور البيومي، صاحب قلم نزيه.. يحترم كلمته، ولا يضعها إلاّ في موضعها.. وهو يعرف تماماً تبعة ما يقول.. وكما يرى القارئ فقد تحرى أن يكون فيها ناقداً حُرَّ الضمير. |
إذن.. فقد تولّى هذه المهمة على خير ما يتولاها مختص نزيه.. |
أما الحديث عن أدب الأستاذ العامودي، بصفة عامة، فماذا عسى أن يقول مثلي -وأنا كما قلت تلميذه- عن رجل هو في الأدب والشعر من كبار روّادهما في المملكة العربية السعودية؟ |
عرفته الأوساط الأدبية، شاعراً ناصع الديباجة، وكاتباً مشرق الأسلوب، وباحثاً مطلعاً دقيقاً ومؤرخاً متتبعاً، يلتزم بشرف الكلمة التزاماً شديداً.. جال قلمه في الصحف المحلية، ردحاً من الزمن طويلاً.. وظهرت بعض آثاره في (وحي الصحراء)، وترأس مجلة (الحج) سنوات طويلة، واستطاع أن يجعلها مجلة دين وعلم وتاريخ وأدب.. وأن يضم إليها بدماثته، وحسن علاقاته، لفيفاً من كبار الكتّاب، من داخل المملكة وخارجها.. وظهرت ألمعيته في عدد من المؤلفات الأدبية والتاريخية.. إنه رجل رائع بحق..! |
ويبدو لي، إذا التمست محوراً معيناً لأخلاقيات هذا الأديب، فإنني أجد هذا المحور ممثلاً في اتزانه.. فالاتزان هو طابعه المميز.. وهو الذي يضبط سلوكه الشخصي.. ليجعله رجلاً نادر المثال.. في وفائه ودماثته وكرمه، بل في قدرته على التغلب على الذات.. وهذا يكفي.. وهذا المعيار نفسه يتحكم في أدبه الفني ويضبطه.. |
سأقص قصة قصيرة من تجربتي معه، ليعرف القرّاء أي رجل هذا؟! |
طُلب إلي في عام 1958م أن أشترك في مؤتمر الأدباء في الكويت، وأن تكون لي كلمة تعقيبية على محاضرة المندوب السوداني.. وكانت الفترة بين تبليغي أو تكليفي بالسفر وبين موعد الكلمة التعقيبية غير فسيحة.. وكان الأمر يتطلب تحضيراً عاجلاً والرجوع إلى مراجع عديدة.. لتكون الكلمة في مستوى المؤتمر.. الذي يحضره عادةً عدد من كبار الأدباء بل من علماء الأدب.. ولم تكن المكتبات العامة، متيسرة على ما هو عليه حالها الآن.. وفكرت أن ألجأ إلى مكتبة الأستاذ العامودي.. وكنت أيامها أسكن جدة.. وكان الأستاذ العامودي بمكة المكرمة.. حيث هو الآن.. ومن عادته أن لا يبرح مكة إلاّ في إجازاته.. فقصدته.. وكان الوقت ليلاً.. بُعيد العشاء. وكنت أعرف داره في المسفلة.. فطرقت الباب.. وناديت.. وكان أستاذنا يسمر في (الخارجة) أي السطح.. على عادة المكيين أيام الصيف.. فنزل عجلاً.. وعلى ملامح وجهه أكثر من علامة استفهام، عما جاء بي في هذا الليل.. فبادرت أشرح الظروف التي حملتني على ذلك، وأعتذر.. ولم يكن متطلعاً إلى اعتذاري، بقدر ما كان مستشرفاً ليطمئن على أمري.. |
استقبلني هاشاً، ورحب بي، وصعدنا معاً إلى الدور الأول من داره، حيث مكتبته.. التي كانت تقبع آنذاك في (كراتين) عديدة، فقد جمعها على أثر حملة دهان وترميم في البيت كله.. ولكن هذا الوضع -وهو غير مشجع- لم يثنه إطلاقاً عن البحث.. فقال مشجعاً: دعنا نبحث عن مطلوبك.. ومضى يعتذر لي.. ثم أخذ يفتح الكراتين واحداً بعد الآخر.. وكلما عثر في أحدها على مصدر ملائم دفعه إليّ.. حتى اجتمع بين يدي عدد غير يسير من المراجع الهامة حملتها وخرجت.. وأنا لا ينقضي عجبي من هذا الخلق الرفيع.. الذي يتمتع به هذا الرجل.. |
كنا حينما كان جيلنا في مكة، جيلاً ناشئاً، يتلمس طريقه إلى الأدب.. قد ذكرنا -في حدود مجموعتنا- أن نقيم ندوة دورية، نجتمع فيها كل ليلة ثلاثاء، في دار أحدنا، على لقاء من الأدب والفكر، وأمعنا النظر، في مَن نختاره من كبار الأساتذة لنضمه إلى مجموعتنا، ليكونوا لنا مرشدين وروّاداً.. كان في المقدمة أستاذنا العلامة السيد أمين كتبي، وأستاذنا الأديب الشاعر العامودي.. وقد وجدنا فيهما بغيتنا علماً وفضلاً وحسن قدوة. |
وهكذا كان للأستاذ العامودي عليّ فضل الأستاذية، إن لم تكن أستاذية مباشرة، فهي أستاذية اللقاء، والحوار، والريادة. |
عبد العزيز الرفاعي |
الرياض: 4/6/1400هـ |
|