مع ابن جبير.. في رحلته |
الأستاذ عبد القدوس الأنصَاري |
لكتب الرحلات في أدبنا العربي، قديمه وحديثه، وفي الآداب العالمية جميعاً مكان بارز ملحوظ. |
ليس من ناحية "الكم" فحسب.. بل من ناحية أخرى، أراها هي الأهم.. وهي أن كتب الرحلات تبدو في الغالب أكثر جاذبية.. ربما لأن الحديث فيها ذو طابع ذاتي.. يزجيه الرحالة المؤلف لقارئه أشبه بمناجاة بين صديقين متقاربين، فالرحالة وهو يسرد وقائع رحلته، وخاصة إذا كان يتمتع بأسلوب سهل جميل، ويصدر في عباراته عن عفوية محببة لا تكلف فيها، لا ريب في أنه في مثل هذا الموقف لا يمكن إلاّ أن يجذبنا إلى متابعته بكل شغف، وبكل اهتمام.. وليس أكثر من هذا سبب يجعل لكتب الرحلات على اختلافها أهمية خاصة، لا أقول تفضل بها سائر الكتب.. فليس هذا وارداً، وإنما فقط يحيلها إلى مائدة شهية لها مذاق خاص يتوق إليه معظم القارئين. |
وواضح أن كتب الرحلات، هي -كغيرها من الكتب أيضاً- تختلف أهمية ومكانة وأثراً.. فإذا كانت الشهرة والسيرورة، هما في معظم الأحيان "مقياس" أهمية أي كتاب، أمكن القول إن ما اشتهر وذاع من كتب ألفها بعض الرحالة المسلمين، على مر العصور وفي شرق وفي غرب، ما كانت لتظفر بما ظفرت به من ذيوع وشهرة لولا ما تميزت به من أهمية ومكانة خاصتين، سواء من ناحية ما حفلت به من معلومات زاخرة في التاريخ أو الأدب أو وصف البلدان.. أو من ناحية دقة الوصف، وسهولة العرض وجمال الأسلوب. |
ولعلّ كتابي "رحلة ابن فضلال" و "رحلة ابن جبير" الأندلسي الكناني، وهما الكتابان اللذان خصهما بالذكر من بين سائر كتب الرحلات القديمة: الأستاذ الباحث عبد القدوس الأنصاري في كتابه هذا القيم، هما خير مثالين.. جديرين بالتنويه. |
أقول هذا وأنا بصدد الحديث عن هذا الكتاب، أعني كتاب الأستاذ عبد القدوس، والذي خصه بالرحالة "محمد بن جبير" وكتاب رحلته.. حيث قدم لقراء العربية هذا الكتاب في عرض جيد، وسياق لطيف مع إبداء ملاحظاته عليه.. ومن خلال ذلك أبان للقارئين، أهمية هذا الكتاب الفريد في تاريخنا الثقافي والحضاري، ثم أحقية الرحلة نفسها بين سائر الرحلات العالمية، بما حظيت به من شهرة وذيوع، ومن عناية واهتمام. |
والواقع أنه ليس من المبالغة إذا ما قيل عن كتاب رحلة ابن جبير، إنه أهم كتاب رحلة في لغتنا العربية ظهر حتى الآن. |
وقد لا يكون من حقي، أو في إمكاني أن أفيض في وصف هذا الكتاب، بعد أن أغنانا المؤلف الفاضل عن كل ذلك، أو بعد أن عبر لنا عن سر إعجابه بهذه الرحلة في كلمات قلائل حين قال: |
"... وإعجابي بهذه الرحلة "رحلة ابن جبير" نابع من حيوية أسلوبها، وامتلاء أبعادها وأوصافها بروح الأدب العربي العالي، مع حسن استيعاب المعلومات، إلى براعة التصوير والتمثيل والتشبيه، وجودة الوصف وصدقه، والتحري بقدر طاقة الرحالة عن حقائق الأمور المتحدث عنها، فلا يؤثر عليه -غالباً- في هذا الجانب السرعة التي تلازم كتاب الرحلات. |
ويضاف إلى ذلك تحقيق ابن جبير للظروف والتواريخ المتعلقة بالحوادث التي يذكرها أو يراها وإمعانه للنظر في السياسات المتعارضة في ذلك العصر الذي كتب فيه رحلته بحيث جلى لنا كثيراً من الأحوال الخفية والغامضة على "شاشة" كتابه.. ثم إتاحته الفرصة للمسلمين المعاصرين لرفع الأستار الكثيفة والخفيفة عن الأحداث وأسبابها الخفية التي تحرك مجتمعاتهم ذات اليمين وذات الشمال، وتعريف بعضهم ببعض، لتزول عنهم غشاوة الخوف والحذر بالنسبة لبعضهم". |
ومن هذا التحليل الوجيز، يقدمه لنا الأستاذ عبد القدوس، لكتاب رحلة ابن جبير وسر إعجابه به.. نفهم أن هذا الرحالة الشهير، لم يكن في رحلاته "مجرد عابر سبيل" شأن أصحاب الرحلات الآخرين.. ممن دونوا الكثير من الكتب، وإنما كان "ابن جبير" رحالة من طراز آخر عجيب.. رحالة له "قضية" كما نقول في هذا العصر.. أو بعبارة أوضح، لديه اهتمامات ترتبط بحياة المسلمين، كثيراً ما تدعوه إلى أن يتصل بهذا أو ذاك ممن لهم شأن ومقام، هو إذن أشبه برجل سياسة محنك، أو دبلوماسي "جواب آفاق" يتنقل من بلد إلى بلد كي يسمع ويرى، ويسجل ويصف، دون أن ينسى أو يتناسى تقصيه لمجريات الأحداث العامة.. وحقائق السياسات المتعارضة، ثم تثبيت انطباعاته عن كل ما يشهده ويراه ويلاحظه.. في كتاب رحلته لغرض حميد، هو أن يصل هذا الذي يكتبه للناس.. إلى من يهمهم الأمر من حكّام المسلمين. |
وما أكثر ما كان يدور من أحداث، ويحاك من خطط، في عصر ابن جبير، وقبله، وبعده، ضد الإسلام والمسلمين. |
* * * |
وقد كان من حسن صنيع المؤلف أن أضاف فصولاً قيمة وممتعة في كتابه تحدث فيها بتفصيل وافٍ، عن تراجم ابن جبير في مختلف المصادر، وعن مشايخه ومن أخذوا عنه، ورحلاته في المشرق ورفقائه في رحلته، ثم مؤلفاته ودواوين شعره، واستغرقت هذه الموضوعات الفصول الأربعة الأولى من كتابه. |
وفي الفصلين الخامس والسادس، يتناول بالبحث خط سير الرحلة.. ثم تحقيق نسبة كتاب الرحلة إليه، وتحقيق اسم الكتاب. |
أما الفصل السابع فقد خصه بالحديث عن شعر ابن جبير ونثره.. وفيه نقرأ الكثير من نماذج شعر ابن جبير ونثره. ونلمح في شعره جودة الشاعرية مع حرارة العاطفة إلى جانب نفحات من الحكمة تتخلل بعض الأبيات، ومن مختار شعره الذي أورده المؤلف قصيدته التي نظمها حين قدم المدينة زائراً وفيها يقول: |
أقول -وأنست بالليل ناراً |
لعلّ سراج الهدى قد أنارا |
وإلاّ فما بال أفق الدجى |
كأن سنا البرق فيه استطارا |
ونحن من الليل في حندس |
فما باله قد تجلى نهارا؟ |
وهذا النسيم شذا المسك قد |
أعير، أم المسك منه استعارا؟ |
وكانت رواحلنا تشتكي |
وجاهاً.. فقد سابقتنا ابتدارا |
وكنا شكونا عناء السرى |
فعدنا نباري سراح المهارى |
أظن النفوس قد استشعرت |
بلوغ هوى تخذته شعارا |
جرى ذكر "طيبة" ما بيننا |
فلا قلب في الركب إلاّ وطارا |
|
ويعلق المؤلف على هذه الأبيات بقوله: "تقع هذه القصيدة في (32) بيتاً، ومن يقرأها يدرك علو نفس ابن جبير في الشعر العربي". |
ومن شعر ابن جبير في الحكمة قوله: |
عليك بكتمان المصائب واصطبر |
عليها فما أبقى الزمان شفيقا |
ويكفيك في الشكوى إلى الناس أنها |
تسر عدواً أو تسوء صديقا |
|
ومن قوله في مدح صلاح الدين الأيوبي من قصيدة مطلعها: |
أطلت على أفقك الزاهر |
سعود من الفلك الدائر |
|
ومنها: |
رفعت مغارم أهل الحجاز |
بإنعامك الشامل الغامر |
وأمنت أكناف تلك البلاد |
فهان السبيل على العابر |
وسحب أياديك فياضة |
على وارد وعلى صادر |
فكم لك في الشرق من حامد |
وكم لك في الغرب من شاكر |
|
وللسلطان صلاح الدين الذي قهر الصليبيين واسترد منهم بيت المقدس، مناقب كثيرة شهد له بها أعداؤه قبل غيرهم وهي من مفاخر تاريخنا الإسلامي. |
ومن لطيف شعر ابن جبير، وحسن اقتباسه فيه: هذان البيتان: |
أيها المستطيل بالبغي أقصر |
ربما طأطأ الزمان رؤوسا |
وتذكر قول الإله تعالى |
"إن قارون كان من قوم موسى"! |
|
وأما نثر ابن جبير، فحسبه كتاب رحلته وما اشتمل عليه من أسلوب محكم رصين، وقد أورد المؤلف نماذج قصيرة أخرى من نثره يمكن أن يرجع إليها القارئ. |
* * * |
ومع ابن جبير من بداية رحلته، من غرناطة إلى الإسكندرية، يبدأ المؤلف حديثه عن رحلة ابن جبير، منذ أن شرع في رحلته الأولى إلى مكة في سنة 598هـ الموافق فبراير 1182م. |
ويقول المؤلف: "لقد حدد ابن جبير الساعات والأيام والشهور لهذه الرحلة مما يوحي أنه كان ممسكاً "دفتر يوميات" كان يسجل فيه الأحداث أولاً بأول، وبانتظام، ومما يجعلنا نقدر أنه كان معه ساعة يأخذ منها توقيت وقوع تلك الأحداث.. بالساعات في كثير من الأحيان. |
ويمضي في وصفه لوقائع هذه الرحلة في تحليل رائع لطيف. |
فمن حديث عن الإسكندرية، كما شاهدها ابن جبير، إلى حديث عن عمرانها وآثارها ومساجدها، وعمرانها المزدوج وحياتها الاجتماعية. |
* * * |
ونمضي مع المؤلف في بحث لغوي وتاريخي ممتع عن الفندقة لغة، في الفصل التاسع من الكتاب.. ثم عن الفندقة في الحضارة الإسلامية.. وذلك في سياق حديثه عن الفنادق التي نزل فيها ابن جبير. |
ثم يعود بنا في الفصل العاشر إلى الحديث عن وصول ابن جبير، من الإسكندرية إلى مصر، وما كان من عنايته بمشاهدة آثارها ومآثرها، وما يتخلل وصفه لهذه المشاهد من فوائد وطرائف كعادة ابن جبير. |
وفي الفصلين الحادي عشر والثاني عشر، يصف لنا المؤلف مسيرة ابن جبير من مصر إلى قوص ثم من قوص إلى جدة، وما لقيه من متاعب، وصادفه من صعاب أثناء مروره بعيذاب، الميناء البحري القديم، والقريب من ساحل جدة.. وكانت عيذاب -كما يشير المؤلف- من أحفل مراسي الدنيا.. وهي في صحراء لا نبات فيها، وكانت بها وظائف لاستيفاء المكوس، التي رفعها صلاح الدين عن الحجاج، إلى أن يقول: |
"... وفي بحيرة عيذاب مغاص للؤلؤ، يستخرج منها أهلها اللؤلؤ.. يقول عنه ابن جبير إنه قريب القعر ليس بعيد.. |
وبعد معاناة شديدة من بحر عيذاب، يصل الرحالة ابن جبير إلى مرسى "أبحر" عشية يوم الأحد الثاني من شهر ربيع الآخر سنة 579هـ. |
وفي الفصل الثالث عشر يعقد المؤلف بحثاً لغوياً حول "الجلبة والجلاب -والبجاة أو أبجة.. في رحلات ابن جبير، وابن يوسف، وابن خياط.. وهو بحث موسوعي هام استغرق ما يقرب من عشرين صفحة من الكتاب. |
ثم يستعرض المؤلف في الفصل الرابع عشر، انتقال ابن جبير من جدة إلى مكة وما وصف به ما شاهده من آثارها.. ومواسمها، وخاصة حديثه عن المجتمع المكي، في عبارات بالغة الدقة ينوّه بها المؤلف في كل موضع، ويستلفت نظرنا هنا حديث الرحالة عن الرخاء الاقتصادي في مكة.. وفي هذا الصدد يقول المؤلف: |
"في سنة حج ابن جبير كان الرخاء الاقتصادي يسود أجواء مكة، فالمتاجر الموسمية كانت تنتشر في موسم الحج آنذاك"، ويقول ابن جبير في ذلك الرخاء الشامل ما نصه: |
"فكنا نظن أن الأندلس اختصت من ذلك بحظ له المزية على سائر حظوظ البلاد، حتى حللنا بهذه البلاد المباركة فألفيناها تغص بالنعم والفواكه كالتين والعنب والرمان.. إلى آخر ما أشار إليه..". |
ولا يفوت ابن جبير أن يشيد بصناعة الحلوى، وصناعها المكيين، ويطنب في وصفها ما شاء له بيانه.. ويعقب المؤلف على ذلك بقوله: |
".. هذه قصة صناعة الحلوى بمكة يقدمها لنا الرحالة الأديب محمد بن جبير على أطباق من در بيانه المتوهج، فيعرفنا بذلك بما كان عليه الأسلاف من نشاط صناعي تفوقوا فيه من هذه الناحية على مصر وغيرها من الأقطار المجاورة، والتاريخ يعيد نفسه...". |
ويمضي المؤلف مع صاحبه ابن جبير في وصفه لمشاهداته في مكة، ومنها احتفال أهل مكة بالعمرة الرجبية.. وقد أجاد في وصفه وصفاً شيقاً يغري القارئ كما يذكر المؤلف -إلى مطالعته في كتاب رحلته. |
ويستلفت نظر ابن جبير أن النساء بمكة عيِّن لطوافهن يوم خاص بهن دون الرجال.. فيجتمعن من كل صوب، ولا تبقى امرأة بمكة إلاّ حضرت المسجد الحرام، ثم لا يبقى به، بعد فتح البيت الحرام، أحد من الرجال ذلك اليوم. |
* * * |
وفي فصول تالية متتابعة، يواصل المؤلف صحبته للرحالة ابن جبير في سائر تنقلاته ومرئياته، وما يبديه من ملاحظاته، وأحاديثه عن شهوده للحج.. ثم سفره إلى المدينة المنورة، ومنها إلى بغداد، ثم إلى دمشق، وأخيراً إلى صقلية حيث ينتهي به مطافه هناك، قبل أوبته إلى بلده "غرناطة" في يوم الخميس 22 من المحرم سنة 580هـ الموافق 25 أبريل سنة 1184م. |
* * * |
وفي الفصول الأربعة الأخيرة من الحادي والعشرين إلى الرابع والعشرين، يتناول المؤلف الفاضل موضوعات أربعة بالتتابع، الأول منها ما وصفه بمكامن الجمال في رحلة ابن جبير.. ثم مصطلحات ابن جبير، ثم ترجمات كتاب رحلته وطبعاته.. وأخيراً: ملاحظاته وانتقاداته على الرحلة.. ومن هذه الملاحظات والانتقادات: سوقه للمبالغات الكثيرة في الأوصاف التي يضفيها على بعض الأفراد، ومنها استرساله في استعمال الكلمات الدخيلة -يضاف إلى ذلك استعماله لكلمات مهجورة تحتاج إلى شرح وتفسير خاص.. كما أن هناك الكثير من الملاحظات والنقد، مما استطرد إليه المؤلف الأريب، ومعظمها -في رأينا- ليس بأمر ذي بال.. إذا ما نظرنا إلى ميزات كتاب الرحلة، على نحو ما مر.. وما اتسم به من موضوعية وأصالة، وما ازدان به من بيان رفيع. |
وبعد.. فهذا هو رحالتنا "الباقعة" محمد بن جبير.. وهذه هي رحلته الماتعة.. أو هذه -على الأصح- رحلة الأستاذ الكبير عبد القدوس الأنصاري مع صاحبه الرحالة الأثير.. وما من شك في أنه قدم لنا كتاب رحلة ابن جبير، في عرض وتحليل رائعين.. وأضفى عليه من محكم بيانه ووصفه وتعليقه -ونقده أيضاً- ما هو قمين أن يتيح قراءتها -في عصرنا هذا- في يسر.. وخاصة بين جيلنا الصاعد الجديد. |
|