محمَّد فريد وَجدي |
رائد التوفيق بَين العلم والدين |
الأستاذ أنور الجندي |
بعد الزعيمين الإسلاميين الرائدين في بداية هذا العصر: الأفغاني ومحمد عبده، كان "محمد فريد وجدي" أول باحث مفكر؛ تفرغ للموضوعات الإسلامية، وأبدى عناية خاصة بالرد على الكتّاب الغربيين المغرضين، وما أثاروه من شبهات وأضاليل حول الإسلام والمسلمين. |
وقد كان هناك أكثر من قضية أثارها هؤلاء الكتّاب. يتركّز كل ما أداروه حولها من مزاعم، في أن الإسلام لم يعد صالحاً لهذا العصر، لأنه ضد العلم، وضد التقدم، وأنه -أي الإسلام- السبب في تخلف المسلمين. |
وكان للأستاذ الإمام محمد عبده، مفتي الديار المصرية في أوائل هذا القرن العشرين، وقفات رائعة في هذا الميدان؛ ميدان الرد على هذه الدعوة الباطلة.. بأسلوبه الهادئ المتزن! على نحو ما نجده في كتابيه الشهيرين: "الإسلام والنصرانية مع العلم والمدنية" و "الإسلام والرد على منتقديه". |
وجاء بعده محمد فريد وجدي ليواصل هذه المهمة، بنفس العزيمة والهمة، وبنفس الإخلاص والصدق، واستمر يجاهد ويكافح، تارة عن طريق مؤلفاته العديدة، وكلها ذائعة ومعروفة، وأخرى عن طريق الصحف والمجلات. |
وقد كان لمحمد فريد وجدي أيضاً أثر بارز في مجال التأليف العلمي البحت وإن كان لم يخرج عن هدفه الديني الإسلامي، وأي أثر أعظم من كتابه في التفسير على المصحف، وقد حاز رواجاً ليس له مثيل، ثم موسوعته الكبرى؛ دائرة معارف القرن العشرين. |
وهذه الموسوعة أو الدائرة تقع في عشرة مجلدات قام بتأليفها وحده، دون مشارك أو معين. |
* * * |
ومن المعروف عن محمد فريد وجدي أيضاً أنه أصدر في وقت من الأوقات صحيفة يومية سياسية اسمها "الدستور" ومجلة علمية شهرية اسمها "الحياة" وكان يساعده في الصحيفة محرر واحد فقط.. محرر ناشئ.. اسمه عباس العقاد.. أصبح فيما بعد أبرز كاتب في مصر، وفي طليعة الكتاب الإسلاميين. |
وقد ظل المرحوم العقاد وفياً لذكرى محمد فريد وجدي طيلة حياته، وكان يثني عليه أطيب ثناء! وفي كتابه "رجال عرفتهم" خصه بحديث يفيض بالإخلاص والحب.. قال فيه: |
".. عرفنا في عصره طائفة غير قليلة من حملة الأقلام، ورجال الحياة العامة، فلم نعرف أحداً منهم يماثله في طابعه الذي تفرد به في حياته الخاصة والعامة، وفي خلقه أو تفكيره، وفي معيشته اليومية، أو معيشته الروحية، وأوجز ما يقال عنه في هذه الحالات جميعاً أنه لم يخلق في عصره من يتقارب المثل الأعلى والواقع المشهود في سيرته كما يتقاربان في سيرة هذا الرجل الفريد! |
نعم: الفريد حتى في لغة الجناس لأن اسمه فريد..". |
* * * |
وفي هذا الكتاب الفريد عن محمد فريد وجدي.. يحدثنا مؤلفه الفاضل الأستاذ الكبير أنور الجندي عن جوانب عديدة من حياة هذا الرجل وكفاحه وجهاده، ومثاليته التي تفرد بها في سلوكه على نحو ما أشار الأستاذ العقاد.. يقول الأستاذ الجندي: |
"نحن إزاء شخصية خصبة غاية الخصوبة عميقة غاية العمق.. شخصية مفكر وفيلسوف، وباحث متجرد لفكرة واحدة، عاش لها حياته كلها وما أطولها بعيداً عن مجالات الشهرة والتألق، أو إحداث الدوي، كأنما هو زاهد، لا يتطلع إلى أي شيء في هذه الحياة، غير أمر واحد، هو أن يقول كلمته، إنه من النماذج القلائل التي تظهر في تاريخ الفكر الإنساني بين آن وآخر، لتكون مهيأة بالعقل والقلم على أداء دور كبير، ليس على مسرح الحياة وإنما في أعماقها.. من أولئك القادرين على استيعاب مفاهيم عصرهم من أجل الدفاع عن دعوة إنسانية رفيعة يحملون لواءها مدى حياتهم، لا يصيبهم اليأس ولا التحول، ولا تزيدهم الأيام والأحداث إلاّ قوة على الاستمرار.. فكأنما هذه الحياة عندهم مجرى طويل ممتد يبدأ أول أمره عادياً لا يلفت النظر.. ثم لا يلبث أن يزداد عمقاً.. ولا يزال يمتد ويتسع ويعمق حتى إذا أوفى على الغاية اكتمل وتضخم وأحال كل ما حوله خصباً وحياة. |
كذلك كانت حياة "فريد وجدي" في مطلعها قبل أن ينتهي القرن الماضي بخمس سنوات.. شاب في العشرين من عمره ولد في الإسكندرية وتنقل بينها وبين دمياط ثم استقر في السويس مع والده الذي كان يلي منصب وكيل المحافظة بها.. وقد أكمل تعليمه في مكتبة والده متفوقاً في اللغة الفرنسية، وقارئاً بها. مازجاً ذلك بثقافة عربية إسلامية أصيلة قوامها دراسات الأدب والعلوم والفقه والتاريخ والسنة والشرائع والقرآن.. موجهاً قلمه إلى قضية عصره.. مواجهاً تحديات الفلسفة المادية، داعياً إلى الإيمان بالأديان.. مقدماً إلى أهل عصره عصارة الثقافات القديمة والمستحدثة.. الشرقية والغربية على السواء.. من أجل بناء ثقافة عربية إسلامية عصرية. وكان عمله في هذا: دائرة معارف القرن العشرين.. |
وتجري حياة "فريد وجدي" الطويلة العميقة التي امتدت قرابة الثمانين عاماً على أرجح الأقوال في أربع مراحل كبرى: |
1- مرحلة بناء الشخصية. |
2- العمل الصحفي الوطني. |
3- الموسوعة والأعمال الكبرى. |
4- الصحافة الإسلامية ومجلة الأزهر. |
* * * |
وقد كان "فريد وجدي" مؤمناً بحاجة المفكر إلى تخليص دماغه للعمل الذهني، ومن هنا حرر نفسه من قيود كثيرة.. هي قيود العمل الوظيفي الذي رفضه في أول حياته وقيود العمل الرتيب في الصحافة.. وهو عمل شاق مرهق يقتل الأعصاب. وأمضى حياته منطلقاً إلى غايته في البحث عن المعرفة والتماس الحقيقة، فيلسوفاً لا يذهب مذهب الأغراب.. وباحثاً لا يستعلي بعلمه.. ومساجلاً سمحاً ما أن يدخل في جدل مع كاتب أو باحث حتى نراه مثلاً عالياً للخلق والإنصاف. |
ولا شك كان فريد وجدي رائد مدرسة فكرية عصرية سلفية.. تجمع بين القديم والجديد.. والشرق والغرب.. والحضارة والدين.. وتحاول أن تزاوج بينهما على منهج جديد، يختلف عن منهج الباحثين من رجال الدين والعلم على السواء.. ويمكن أن يقال إن كتابات الدكتور محمد حسين هيكل وعباس محمود العقاد ومحمد أحمد الغمراوي ومحب الدين الخطيب هي متابعة لمنهجه واستمرار لفكرته. |
مفاهيم فريد وجدي وفلسفته |
يكشف فريد وجدي -من خلال الإطار الذي رسمته حياته الفكرية بين الصحافة والتأليف والترجمة وبين الموسوعة والكتاب، ومن خلال ألوف الصفحات التي حررها منذ أن بدأ يكتب عام 1896م إلى أن توقف قلمه قبيل وفاته بآخر كتاباته في مجلة الأزهر في فبراير عام 1952 وإلى أن توفي في 1954 -أنه صاحب "رسالة" حمل لواءها نيفاً وخمسين عاماً لم يتوقف.. وقد بدت هذه الرسالة واضحة أمام فكره منذ اليوم الأول وظلت تمضي كالنهر تعمل وتمتد حتى نهاية عمره، فهو من أولئك المفكرين الإنسانيين الذين تملكهم فكرة واحدة كبرى يعيشون لها حياتهم ويدافعون عنها بكل ما يملكون من أسباب ووسائل وأسلحة.. ومن أجل هذه الرسالة التي آمن بها فريد وجدي عاش حياته وجرد نفسه لها فلم يخلط بها شيئاً من مطالب الحياة -أو لذات العيش. وقد ملكت عليه وقته وماله فلم تصرفه لعمل آخر. ولم تكن إلاّ لذته الكبرى التي تملأ عليه حياته كلها.. ومن عجب أن رسالة فريد وجدي إنما كانت في جذورها الأولى تمثل أزمته الشخصية أزمة عقله وروحه فلما أتيح له أن يقرأ أو يبحث ويهتدي جعل منها قضية كلية عامة للناس جميعاً.. ذلك بأن نظريات الإلحاد والتشكيك في العقائد والأديان كانت أزمة العصر في مطلع شبابه.. وقد حاول أن يجد حلاً لها عند المتصدرين للعلوم الدينية فعجزوا عن أن يحققوا رغبته أو يقدموا له الهداية واليقين فلما وصل إلى ذلك عن طريق دراسة الأديان وعالم ما وراء المادة، دعاه ذلك كله إلى أن يندب نفسه ليكاشف به بني قومه، وأن يحمل لواء العمل لرد الشبهات، ودحض الاتهامات المثارة ضد الإسلام والأديان.. وعالم ما وراء المادة.. |
ومن خلال مؤلفاته المتعددة وصحفه وأبحاثه ودراساته المتوالية في حلقات حياته المختلفة كان مرن العبارة.. واسع الأفق، قادراً على الاستيعاب من الموسوعات والمؤلفات الغربية.. وقد تطور أسلوبه وانصقل مع الزمن حتى غدا في الأربعينيات غاية في المرونة والسلاسة.. ولكنه عاد في كتاباته لمجلة الأزهر إلى أسلوب أكثر فخامة وبلاغة.. مما يكتب فيه في الصحف والمجلات.. ولعلّه كان يحرص على بلوغ أكبر قدر في نفوس قرائه في مختلف أجزاء العالم الإسلامي. |
* * * |
وقد كان فريد وجدي يستطيع أن يكون أديباً.. وهو أديب وشاعر وله نظم جميل.. ويستطيع أن يكون صحفياً عالمياً.. وأن يكون عالماً اجتماعياً.. فقد بدأ حياته بدراسات العمران وعلم الاجتماع.. وأن يكون مؤرخاً.. وأن يكون كاتب تراجم، ولكنه آثر ذلك الخط الواحد الذي بدأ منه ومضى عليه طوال حياته.. ذلك بأنه لم يكن من المتطلعين أساساً للشهرة أو المنصب أو المال.. وإنما كان يستهدف أن يرضي نفسه وضميره بأن يحرر العقائد ويصحح المفاهيم، ويدفع عن الدين والروحية والإسلام والإنسانية كل اتهام.. |
عالمية الإسلام |
يقول المؤلف "دراسات الإسلام" هي القضية الكبرى لفريد وجدي التي عالجها من خلال مختلف قضايا الفلسفة المادية والعلم والدين.. ومن خلال كتاباته السياسية والاجتماعية جميعاً.. ثم أتيح له في السنوات العشرين الأخيرة أن يشرف على تحرير مجلة الأزهر.. فيتخصص فيها ويوسعها بحثاً، ومجمل رأي فريد وجدي في الإسلام من عصارة عشرات المقالات التي كتبها عنه يتلخص في اثنتي عشرة نقطة. |
1- الإسلام دين اجتماعي عمراني يؤاخي بين مطالب الروح والجسد، لم يأمر بنبذ الدنيا.. ويحض على الأخذ منها بأكبر نصيب. |
2- لم يحجر على العقل إطلاقه، بل جعل له الحكم الفصل في المعتقدات والمعاملات. |
3- لم يبطل حرية البحث بل أطلقها، وجعل السلطان للحجة والبرهان. |
4- حث على النظر في الكون، وتسخير مواده ونواميسه.. والسير في الأرض للاعتبار بأحوال الأمم وأخذ ما يصلح منها. |
5- لم يأت من العبادة إلاّ ما يفيد الشخص في روحه وجسده. |
6- لم يغمط حق الجسد، ولم ينكر مقتضيات المادة. |
7- قرر دستور العلم، فدعا إلى عدم الانخداع بالأوهام، ولا يغتروا بالظن وأن يسألوا أهل الذكر، وألا يقولوا بغير دليل، وأن يعملوا عقولهم فلا يقلدوا أحداً وأن يكونوا أحراراً في النظر لا يصدهم عن ذلك شيء. |
8- أمرهم بتعمير الأرض والتنافس في الصنائع والفنون النافعة. |
9- جعل للمبتكرين الثواب في قوله صلى الله عليه وسلم: من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده. |
10- فتح للناس باب الاجتهاد في فهم الحياة فلم يقصرها على طائفة خاصة من الناس. |
11- ناط بكل إنسان تبعة أعماله واعتقاداته. |
12- وسع للناس باب المعاملات، وأوصاهم بحسن معاملة الأجانب عن ملتهم وبرهم. |
* * * |
والحق أن هذه الصورة للإسلام هي من أدق ما كتب عنه وضوحاً وعمقاً، وبساطة وشمولاً، وعنده أن الإسلام حاصل على جميع المقومات الأدبية التي تجعله دين الكافة في كل زمان ومكان.. وبأنه في غير حاجة لإصلاح جديد.. وأن أسلافنا قد قاموا منه على طريقه.. فنحن ندعو إليها ونشيد بذكرها.. |
وإذا كان فريد وجدي قد بلغ هذا الحد من النضوج الفكري في قمة العمر، فإن عمق فهمه يبدو واضحاً منذ فجر شبابه حيث تنبه إلى التجديد والتطور.. وأكد أن هذه الأمة لا تستطيع أن تتخلى عن الدين. |
ويؤمن فريد وجدي بأن الإسلام يدعو إلى تأسيس مدينة فاضلة ويتحدث عن هذا في كثير من أبحاثه. |
* * * |
وهكذا عاش فريد وجدي يؤمن بأن الإسلام هو نهاية الفكر الإنساني، وأن الإنسانية بعد طول حيرتها حول المذاهب والدعوات والأفكار لن تجد حلاً لمشاكلها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية إلاّ في الإسلام.. وعنده أن المدنية الصحيحة لا تنافي الدين الحق. |
ثم هو حفي بأن يصور عالمية الإسلام من حيث مناعته في جميع أدوار حياته في مواجهة كل أزمات الإلحاد والتشكيك. |
وهو حين يصور موقف الإسلام من العلم، يرى أنه لا يوجد دين من الأديان، ولا نظام اجتماعي من النظم المعروفة قديماً وحديثاً يبلغ شأن الإسلام في رفع شأن العلم والتنويه بقيمته، وفي الدعوة إليه، والتعويل عليه. |
ويرى فريد وجدي أن الإسلام، يستطيع أن يقاوم كل حملة يمكن أن تحملها عليه أي فلسفة في العالم، وأن ما يوجهه الفلاسفة الماديون إنما يوجهونه إلى أديان ليس أساسها العقل والدليل.. وليس يتجه إلينا منها شيء. |
ويرى فريد وجدي أن عالمية الإسلام ترجع إلى أنه آخر الأديان الإلهية: الدين العام لمجموع البشرية وأنه يصبح دين الكافة غير منازع. |
* * * |
وهو يرى من أسرار عظمة الإسلام وقدرته على العالمية أنه قانون عام للأفراد والأمم، وهو يؤكد قول "برنارد شو" بأن أوروبا قد لا يمضي عليها قرنان حتى تكون قد اتخذت من الإسلام ديناً.. |
محمد صلى الله عليه وسلم والقرآن |
حفلت كتابات فريد وجدي بدراسات واسعة عن "محمد" صلى الله عليه وسلم، وعن القرآن الكريم: فقد بدأ منذ أن أنشأ مجلة "الحياة" 1899م يتناول سيرة الرسول على نحو علمي في فصول متعددة جمعها في كتاب "الإسلام في عصر العلم" ثم عاود البحث في سنواته الأخيرة في مجلة الأزهر فأمضى أعواماً في دراسة سيرة النبي "صلى الله عليه وسلم" في ضوء العلم والفلسفة وفي مختلف المناسبات.. |
أما القرآن فقد أولاه من دراساته كثيراً من البحوث وفي مقدمتها دراسته الضخمة في مقدمة "صفوة العرفان" وجملة رأيه أن القرآن أثبت أن للاجتماع نواميس ثابتة قبل أن يتخيلها أعلم علماء الأرض. |
سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (الأحزاب: 62) فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (فاطر: 43) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (الأعراف: 34). |
ويرى أن القرآن هو موجد علم الاجتماع بأخص معانيه.. وليس موجده ابن خلدون ولا أوجست كومت.. وقد قرر علم الاجتماع أن شؤون الأمم تجري على سنن طبيعية ثابتة لا تتغير بتغير الأزمنة والأمكنة، هذا ما قرره العلم في القرن التاسع عشر، قد سبقه الوحي الإلهي في القرآن الذي قرر ذلك بأفصح عبارة، وعندما شرع المسلمون في إحياء موات العلم، ونقل كتبه، وإنشاء تلك النهضة العلمية الضخمة، كانوا مستهدين بالأصول الأولية للقرآن. |
مساجلات ومعارك |
يقول المؤلف: إذا عرضنا لمساجلات فريد وجدي ومعاركه كجانب هام لا بد من مراجعته.. فإننا نستطيع أن نقول أولاً إن حياة فريد وجدي الفكرية كانت معركة كبرى في مواجهة سجال واحد: هو سجال النظرية المادية للفكر الإنساني ومحاولة مقاومتها للدين والعلم جميعاً. تلك هي القضية الكبرى، أو المساجلة الكبرى التي تصدى لها فريد وجدي، والتي دفعته إلى أن يحمل القلم ويقرأ.. ويهبها حياته كلها، ويحرص على أن يمد هذه الحياة بالحماية لها، والحفاظ عليها حتى تتسع للعمل على مواجهة الفلسفة المادية. |
تلك هي معركة فريد وجدي الكبرى التي يقف بها في مواجهة كل خصوم الدين والروحية وما وراء المادة.. وقد كانت كتاباته في أول أمرها رداً ومساجلة لدارون، وبختر، ومن ترجم لهما من أمثال "شبلي شميل" والدكتور صروف وغيرهما.. كما واجه فريد وجدي طابعاً آخر من المعارك، هو معارك الانتقاص للفكر الغربي والحضارة الإسلامية، ودور العرب والمسلمين في الحضارة الحديثة، وما وجه إلى "الإسلام" من اتهامات وشبهات، وفي هذا كانت معركته الباكرة في الرد على "هانوتو ورينان وكرومر" وهي معركة لها طابعها الواضح في الدفاع عن الإسلام، وفي التفرقة بين الإسلام نفسه ديناً ونظاماً اجتماعياً.. وبين ما عليه المسلمون في العصر الحاضر. |
* * * |
ثم كانت معركته مع "قاسم أمين" في شأن إطلاق الرأي في حرية المرأة.. وضرورة الاستفادة من الأخطاء التي وقعت فيها التجربة في الغرب. |
ثم لا يلبث فريد وجدي بعد الحرب الأولى أن يواجه معارك أخرى من نوع جديد مع "طه حسين" بعد إصداره "الشعر الجاهلي". |
وكانت له مع كل من "هيكل وزكي مبارك" آراء حول ما عرضاه في كتابيهما "ثورة الأدب" و "النثر الفني". |
وعندما أثير أمر كتاب "مسائل في العلم" الذي كان يدرس في الجامعة الأمريكية ويحوي هجوماً على الإسلام تقدم فريد وجدي بالرد على هذه الشبهات في فصول نشرت في جريدة الجهاد وجمعت في كتابه "الإسلام دين عام خالد". |
* * * |
أما في المرحلة الأخيرة من حياته حين تولى تحرير مجلة الأزهر، فقد ظل فريد وجدي عشرين عاماً كاملة يواجه كل ما يكتب عن الإسلام في المؤلفات والصحف الغربية تحت باب معروف لم يتوقف: هو "دحض شبهات عن الإسلام" عرض فيه لآراء كثيرة، مفنداً في إفاضة وعمق. |
معارك الأدب وقضاياه |
ثم يتناول المؤلف معارك فريد وجدي الأدبية مع الدكاترة "طه حسين" و "زكي مبارك" و "محمد حسين هيكل" حول ما ورد في كتبهم عن الشعر الجاهلي، والنثر الفني، وثورة الأدب.. وهي معارك كان لها في زمانها شأن وأي شأن.. وقد كان ممكناً أن نعرض لها في هذا لولا ضيق المجال. |
|