عمَر بن الخطاب |
الوثيقة الخالدة.. للتاريخ الخالد |
الأستاذ عبد الكريم الخطيب |
مؤلف هذا الكتاب أديب فاضل وعالم بحاثة أخرج العديد من الكتب ذات الأسلوب الناصع الهادف.. ولعلّ القراء يذكرون له من كتبه هذه: "السياسة المالية في الإسلام" الذي سبق أن عرضنا له في هذا الكتاب: |
- من كتبه أيضاً: "من ثمرات الحقل الإسلامي" وهو مقالات تطبيقية لشريعة الإسلام في حياة الفرد والجماعة وفي نظام المجتمع: المادي والروحي. |
وكتاب: "في طريق الإسلام" وهو دفاع عن العقيدة الإسلامية ودفع لما زحف عليها من مقولات الوثنيين والملحدين.. وعرض للشريعة في سماحتها ويسرها، وكفالتها لحاجات المجتمع الإنساني وتطوره.. |
وكتاب "محمد بن عبد الوهاب" وهو كتاب لم نطلع عليه ولكن الناشر "دار الجيل للطباعة" بالقاهرة، يذكر عنه أنه عرض لدعوة الإمام الجليل "محمد بن عبد الوهاب"، في فكرتها ومنهجها والآثار التي نجمت عنها، والدعوات الإصلاحية التي اقتفت أثرها.. من دعوة جمال الدين الأفغاني إلى الدعوة السنوسية في بلاد المغرب، إلى الدعوة المهدية في السودان، مع تحليل كاشف لشخصية صاحب الدعوة وملكاته العقلية والروحية. |
وفي الحق أن كتابه هذا عن الفاروق العظيم "عمر بن الخطاب" طريف في بابه، متميز في أسلوبه، يقرأه القارئ كما يقرأ أية قصة تحليلية ممتعة، فوق ما يتسم به تناول المؤلف الفاضل للموضوع من دقة في إيراد الوقائع، وأصالة في الحكم والاستنتاج. |
العظمة في الرجال رائعة |
يبدأ حديثه في مقدمة الكتاب فيقول "العظمة في الرجال.. رائعة معجبة.. لها سلطان على النفوس، يستجيب له الناس استجابتهم لآية من آيات الفن.. أو رائعة من روائعه! |
وآية الرجل العظيم أن يكون له في الناس معجبون وعشاق.. من جنسه وغير جنسه.. في عصره وغير عصره.. وعلى قدر اتساع دائرة المعجبين، ومدى امتداد أزمانهم وأوطانهم يكون حظ العظيم من العظمة، مكانه بين العظماء". |
ومن هنا كان في الناس عظماء "عالميون" تلتفت إليهم الدنيا كلها، ويعيش معهم العالم جميعه في أجياله وأزمانه.. وكان في الناس كذلك عظماء "محليون" -مكاناً وزماناً- لا يعيشون إلاّ في أوطانهم لجيل، أو لأكثر من جيل. |
عظمة عمر |
ثم يقول: ".. وعمر بن الخطاب عظيم كامل العظمة في الرجال.. قد استوفى من كل عظمة حدها، وبلغ غايتها.. |
ففي كل مجال من مجالات العظمة قد أخذ عمر مكانه واضحاً بارزاً في الصفوة المختارة من عظماء العظماء في الرجال!! |
- فهو عظيم في عظماء الورع والتقوى.. |
- عظيم في عظماء القناعة والزهد.. |
- عظيم في عظماء التشريع والقضاء.. |
- عظيم في عظماء العدالة والحق.. |
- عظيم في عظماء الحكمة والرأي.. |
- عظيم في عظماء السياسة والحكم.. |
- عظيم في كل مظهر من مظاهر العظمة، وفي كل موطن من مواطنها.. |
والذي يقف من عمر موقف الناظر إلى شخصيته أو المطالع لسيرته، يأخذه من كل هذه "العظمات" دهش وروعة، وإكبار وإجلال، وحب وإعجاب، يشارك فيه المسلم غير المسلم، ويلتقي عنده العربي وغير العربي على السواء. |
فعظمة عمر الإسلامية هي في صميمها عظمة إنسانية، في أكمل صورها، وأرفع منازلها.. ومن ثم كان لعمر هذه المكانة العالية عند المسلمين وغير المسلمين.. يحبه المسلمون ويحترمونه، لأنه يمثل الإنسان المسلم في أكمل صوره، ويبرز تعاليم الإسلام في أروع مظاهرها.. ويجله غير المسلمين ويقدرونه لأنه يمثل الإنسان في أكرم أوضاعه، ويرتفع بالإنسانية إلى أشرف منازلها، ويرسم لأصحاب العزمات والمثاليات من الناس الطريق واضحاً إلى غايات السمو، ومواطن العظمة والخلود. |
* * * |
يستهل الفصل الأول من الكتاب بالدعوة المستجابة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم أعز الإسلام بعمر بن الخطاب، ويقول: لقد نفذ الرسول الكريم ببصيرته الملهمة إلى هذا الفيض الغدق الذي كان يشتمل عليه كيان "عمر" من سلامة القلب، وقوة النفس، وزكانة الرأي، ويقظة الضمير، ونخوة الرجولة، فتمناه للإسلام سنداً وظهيراً، في وقت كان الإسلام فيه أشد ما يكون حاجة إلى السند والظهير. |
ثم يقول المؤلف: واستجاب الله دعاء رسوله! |
ودخل عمر في الإسلام.. |
وزاد عدد المسلمين.. واحداً.. ولكنه عمر! |
عمر الذي تمناه الرسول على الله ليعز به الإسلام، ويشد به ظهر المسلمين.. |
وقد كان! |
فمن اليوم الأول لإسلام عمر أحس المسلمون أن مدداً من السماء قد اتصل بهم، وأن قوة من قوى الحق طلعت عليهم، فوجدوا برد الراحة في قلوبهم، وأحسوا أنس السكينة يطيف بهم، إنهم لم يصبحوا أربعين أو واحداً وأربعين، وإنما صاروا بعمر ومع عمر: قوة غالبة قاهرة اعتز بها جانب المسلمين، وزلزل بها جميع قريش وذلت لها كبرياؤها! |
* * * |
وعمر الذي كسبه الإسلام في أشد مراحل الدعوة ضيقاً، وأكثرها حرجاً هو "عمر" الذي خلف رسول الله في القيام على دولة الإسلام، بعد الخليفة الأول "أبي بكر"، فكان معجزة من معجزات هذا الدين، وشاهداً من شواهده الناطقة بأفصح بيان على أنه دين يستند إلى قوى الحق.. ويتصل بأسباب السماء، ويضاف إلى أحكم الحاكمين: رب العالمين! |
إن عمر في عدله، وزهده، وفي سياسته وتدبيره، وفي شدته وبأسه، وفي لينه وفي رحمته، معجزة قاهرة يقدمها الإسلام للإنسانية كلها، فترى في سيرته تعاليم الإسلام ومبادئه، وقد انتقلت من حيز الوصايا ومقررات الأحكام، إلى مشخصات حية تعيش في الناس.. تضبط سلوكهم، وتسدد خطاهم، وترد شاردهم، وتعين ضعيفهم، وتنتصر لمظلومهم، وتمكّن لهم جميعاً من أسباب الأمن والسكينة في دولة الإسلام العريضة المترامية الأطراف.. |
فالعدل والرحمة، والخير والإصلاح، والتواضع والزهد، وغيرها من الأخلاق السامية، والمبادئ الكريمة، التي ضمت عليها تعاليم الإسلام، قد ألبستها السيرة العمرية ثوب الحياة، وأقامتها على رؤوس الولاة والحكّام، وبين الجماعات والأفراد، تؤدي وظائفها كاملة، في غير مدافعة ولا مجاملة.. فإن عاقها عائق.. أو تصدى لها متصد.. كان عمر هو الذي يتولى بنفسه تأديب الخارجين عليها، والمتصدين لها، ولو كان أقرب الأقربين إليه، وأشدهم في الناس قوة وبأساً.. |
* * * |
يتحدث المؤلف الفاضل عن إسلام عمر -رضي الله عنه- فيروي لنا أولاً كلمة عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "كان إسلام عمر فتحاً.. وهجرته نصراً.. وإمارته رحمة" وتلك الكلمة الجامعة -يقول المؤلف- هي أصدق كلمات وصف بها عمر في براعة ودقة إحكام. |
ويمضي المؤلف في إيراد قصة إسلام عمر في أسلوبه الماتع.. إلى أن يقول: وبدأ عمر العمل.. قال: يا رسول الله.. علام نخفي ديننا؟ أو لسنا على الحق؟ فقال النبي -صلوات الله عليه- إنا قليل! فقال عمر؛ والذي بعثك بالحق نبياً لا يبقى مجلس جلست فيه بالكفر إلاّ جلست فيه بالإيمان! |
وخرج عمر يكشف للمسلمين معالم الطريق بنفسه، ويواجه احتمالات التجربة وما يحف بها من أخطار.. إنه مع رغبته القوية الصارخة في أن يجهر المسلمون بإسلامهم، وأن يلقوا قريشاً بدينهم، وأن يأخذوا مكانهم من البيت الحرام وموضعهم من حجر إسماعيل، إنه مع رغبته هذه، حريص على ألاّ يعرض أحداً من المسلمين لهذا الامتحان وما فيه من محنة وبلاء، فخرج وحده، وطاف بالبيت، ثم مر بقريش وهم ينظرونه! فقال له أبو جهل بن هشام: زعم فلان أنك صبوت! فقال عمر: بل أسلمت! فأشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله!! |
فتواثب المشركون عليه، ووثب عمر على عتبة بن ربيعة فبرك عليه.. وجعل يضربه.. وأدخل أصبعه في عينيه.. وجعل لا يدنو منه أحد إلاّ اشتبك به حتى أحجم الناس عنه.. ثم انصرف إلى النبي وهو ظاهر عليهم، فقال: يا رسول الله! ما يحبسك؟ بأبي أنت وأمي! فوالله ما تركت مجلساً كنت أجلس فيه بالكفر إلاّ ظهرت فيه بالإيمان، غير هائب ولا خائف!!! |
ولأول مرة يتدفق موكب النور في شعاب مكة.. ويتقدم الرسول الكريم -صلوات الله عليه- هذا الموكب وعمر وحمزة أمامه.. حصنان من حصون الله! يدفعان عنه ما يريد به المشركون من أذى، وما يدبرون له من شر! |
ولقد اضطربت قريش لهذا وفزعت.. إذ تفتحت أمام الراغبين في الإسلام الطرق والمسالك.. فتقدم المتردد.. وظهر المستخفي.. وجهر المخافت.. ودوت كلمة الإسلام في آفاق مكة.. ورأى الناس مشاهد هذا الدين ومعالمه فيمن يصلون بالبيت، ويطوفون به من المسلمين! |
* * * |
وينتقل المؤلف إلى الحديث عن هجرة عمر ليقول: ... وكذلك كان الشأن في هجرة عمر.. هجرة من نوع جديد لم تقع لأحد من المهاجرين الذين سبقوه إلى دار الهجرة، كان المسلمون قبل هجرة عمر يهاجرون متخفين في صور شتى.. لا يستطيع أحد منهم أن يخرج سافراً، أو يظهر أحداً على خروجه! أما عمر فقد نهج نهجاً عمرياً في هجرته!! طاف بالبيت سبعاً متمكناً، متقلداً سيفه، متنكباً قوسه، والملأ من قريش على مرأى منه ومسمع!! |
ثم لم يرض بهذا، فمر بمجامع قريش حلقة حلقة، وهو يعلنهم بهجرته، كأنما يتحداهم، ويستذل كبرياءهم. |
يا سبحان الله! رجل فرد يقف في وجه هذا الطغيان العنيف، ويتحدى هذا السيل العتي المتدفق من صلف قريش وكبريائهم ومن حميتها وبأسها، ثم لا يقوم له من القوم قائم.. ولا يقف في وجهه أحد. إنه الحق.. وإنه الإيمان.. وحسبك بالحق وبالإيمان من قوة وناصر! |
فهذا الأسلوب الذي هاجر به عمر.. هو نفس الأسلوب الذي أعلن به عن إسلامه، لم يرض عن نفسه بأن ينتهي بالإعلان عن إسلامه عند الرسول، وعند جماعته المسلمين، بل استصرخ كل ذي صوت ندي، ينادي في الناس: إن عمر قد أسلم ليعلم من لم يكن يعلم، ولتصتك آذان العتاة من المشركين بهذه الكلمة، ولتغلي مراجل غيظهم منها.. ثم ليكن ما يكون! |
أسلوب واحد في إعلانه عن إسلامه.. وفي معالنته بالهجرة.. وكما كان إسلامه فتحاً على المسلمين، فكذلك كانت هجرته نصراً على ما يقول ابن مسعود -رضي الله عنه. |
الحق عند عمر |
روى الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: رحم الله عمر، يقول الحق وإن كان مراً.. تركه الحق وما له من صديق!! |
فالحق عند عمر هو كل شيء.. هو الصديق، وهو الأهل، وهو الولد، إن تخلى عنه في سبيل الحق.. الأهل والصديق والولد. |
ورضي عمر صحبته للحق على هذا الوجه الذي لا تستريح له بعض النفوس.. وبدا عمر للناس أنه فظ غليظ تنخلع لمرآه القلوب.. وتنقبض منه الصدور، وتزورُّ عنه العيون! |
لقد فرق عمر بين الحق والباطل.. وضرب بينهما برزخاً لا يبغيان.. ولهذا سماه الرسول الكريم "الفاروق" وكانت تلك الكلمة النبوية هي وعمر في كفتي الميزان على سواء.. |
قوة عارمة جارفة تندفع في سبيل الحق. لا ترى للحق غير وجه واحد.. مهما اختلفت الظروف، وتحولت الأحوال! |
هذه إحدى الصفتين البارزتين في عمر.. أما الصفة الأخرى البارزة في عمر.. فهي الألمعية الكاشفة.. والبصيرة النافذة، فما ظن عمر أمراً إلاّ جاء كما ظن.. إنه ملهم تتكشف له عواقب الأمور، وتستدير له أعقابها، فيرى غائبها حاضراً، وبعيدها دانياً. |
ونسأل: أتلك طبيعة قائمة في نفس عمر، وجبلة مستقرة فيه؟ أم هو كسب جاءه عن طريق الإسلام بما أفاض عليه من روحانية وصفاء؟ |
نستطيع أن نجمع بين الأمرين في عمر، فنقول: إنها طبيعة جلاها الإسلام وكشف الغطاء عنها.. |
وبهاتين الصفتين البارزتين في عمر: الشدة في الحق.. والألمعية في الرأي.. أدار عمر شؤون الدولة الإسلامية، وضبط أمورها، وأقام موازين العدل في كل أفق من آفاقها.. وترك على صفحات التاريخ سيرة تحدث عن الإسلام أطيب الحديث وأروعه، وتكشف من تعاليم هذه الملة السمحاء صوراً رائعة، وآيات معجبة استظل الناس بظلها ونعموا في رحابها. |
فلقد كانت خلافة عمر أكمل تجربة لعظمة الإسلام، وخلود مبادئه، ووفاء تعاليمه بمطالب الحياة الإنسانية في مختلف الأزمنة وعند جميع الأمم. |
ثم يتحدث المؤلف في فصل بعنوان "عمر الخليفة" فيشير أول ما يشير إلى ما وفق إليه الخليفة الراشد الأول أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- من سداد وتوفيق بحسمه موضوع الخلافة من بعده عندما عهد بها إلى عمر. |
عمر وسياسة المال |
وفي فصل آخر بعنوان "عمر وسياسة المال" يقول: وننظر ماذا كان من تدبير عمر في هذا؟ |
أما المال فصرف همه فيه إلى أمرين: أن يجيء إليه بحق.. وأن يخرج من بين يديه بحق! |
ففي الأمر الأول كان يراقب عماله مراقبة صارمة، ويحاسبهم حساباً عسيراً إذا وقع من أحد ظلم على أحد في اقتضاء جزية أو خراج أو زكاة.. ومواقف عمر في هذا كثيرة تمتلئ بها صحف سيرته، ويضرب بها المثل كلما أراد الناس أن يستحضروا صورة بارزة للعدل بين الحاكم والمحكوم. |
ويمضي المؤلف في حديثه في تفصيل إلى أن يقول: ومن تدبير عمر في تنقية الموارد التي يجيء منها المال إليه، والاطمئنان إلى أنه بريء من الظلم، وخلص من العدوان -من تدبيره في هذا أنه كان إذا جاءه مال من جهة من الجهات لم يقبله إلاّ بعد أن يتأكد أنه إنما جاء عن طريق الحق والعدل.. |
أما الأمر الثاني المتصل بالمال وهو مخرجه في وجوه الحق.. فقد أتى عمر في هذا الباب بالعجب العاجب.. وتصرف فيه تصرفاً عبقرياً لن يلحقه فيه أحد. |
إن أحدث النظريات الاقتصادية التي تعنى برسم السياسة المصرفية للدولة لا يمكن أن ترتفع إلى مستوى هذا الأسلوب المحكم، الذي تفتقت عنه عبقرية عمر، وفاض به خاطره، وألهمته إياه فطرته، وأقامه عليه دينه، في توجيه المال الذي بين يديه، ووضعه بأصلح موضع وأنفعه.. |
ثم ننظر في التطبيق العملي لهذا الدستور، فتراه قد وفى له أتم الوفاء وحققه على أكمل صورة وأروعها. |
* * * |
ثم يتحدث المؤلف عن عمر وعماله قائلاً: حرص عمر أشد الحرص وفكر أعمق التفكير في اختيار الولاة والعمال على أمصار الدولة الإسلامية المترامية الأطراف.. لأنه كان يرى أن أي تفريط في انتقاء الولاة، وتخيرهم من بين من عرفوا بالعفة والنزاهة وحصافة الرأي ونقاء الضمير.. يفسد على الرعية أمرها، ويقلب موازين العدل فيها.. |
وكان العبء ثقيلاً على عمر.. لأنه لا يأمن في كل حين أن يجد الرجل الذي يضع بين يديه هذه الأمانة العظيمة.. ويجيء على الصورة التي يريدها.. ولأنه من جهة أخرى كان يرى أن المسؤولية في أي تقصير يجيء من قبل الولاة، إنما هي واقعة عليه.. لأنه أمير المؤمنين، وهو مسؤول أولاً وأخيراً عن كل ما يقع في محيط خلافته.. |
كان يقول: "لو مات جدي بطف العراق لخشيت أن يطالب الله به عمر"! |
وخوف عمر من التقصير في هذه المسؤولية يزعجه ويؤرقه، ويصور له المظالم قائمة على رأسه.. والمظلومون متعلقون به يوم القيامة في معرض الحساب، يطالبونه بما وقع عليهم، منه أو من ولاته من ظلم! |
هذا الخوف المتسلط على عمر لم يدع له لحظة يجد فيها برد الطمأنينة والعافية فكلما أحس بشيء من هذا اطلع عليه هذا الإحساس ففزع له واضطرب! |
اجتهد عمر غاية الاجتهاد في اختيار الولاة وجباة الأموال وفرض عليهم رقابة صارمة، وأخذ من قصر أو انحرف منهم بالبأساء والضراء في غير رحمة أو مجاملة. |
وفي فصول أخرى طريفة يتحدث إلينا المؤلف عن "عمر وطلاب المال..". |
وعن "عمر وحدود الله".. وفي هذا الفصل يشير إليه إلى عمر -رضي الله عنه- حاكماً وقاضياً، ويتحدث عن رسالته الشهيرة إلى أبي موسى الأشعري في القضاء.. وما تكشفه هذه الرسالة عن أهلية عمر الكاملة لولاية القضاء والفصل بين الناس. لما اشتملت عليه من مقررات لا يتم القضاء إلاّ بها ولا تتحقق العدالة إلاّ معها ثم يقول: |
لقد ضمت هذه الرسالة مبادئ هي اليوم شعارات القضاء في أرفع منازله.. وأكمل صوره.. وأن أي قاضٍ لا يتحلى بهذه الشعارات لن يحقق عدلاً أبداً.. وأن أية ساحة من ساحات القضاء تتعرى من تلك الشعارات لن يستقيم فيها ميزان العدل بين الناس بحال أبداً.. |
كتب عمر إلى أبي موسى الأشعري حين ولاه القضاء رسالة طويلة جاء فيها: |
".. أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة، وسنة متبعة، فافهم إذا أدلي إليك بحجة، وأنفذ الحق إذا وضح، فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. |
آس بين الناس في وجهك.. ومجلسك.. وعدلك حتى لا ييأس الضعيف من عدلك، ولا يطمع الشريف في حيفك، البينة على من ادعى واليمين على من أنكر. |
والصلح جائز بين المسلمين إلاّ صلحاً أحل حراماً، أو حرم حلالاً. |
الفهم، الفهم فيما يختلج في صدرك مما لم يبلغك في الكتاب والسنة. |
وإياك والقلق والضجر والتأذي بالناس، والتنكر للخصوم في مواطن الحق". |
هذا بعض من دستور عمر في القضاء! |
ولعلك ترى أن كل فقرة من فقرات هذا الدستور دعامة راسخة من دعامات القضاء، استوحاها عمر من دينه واستملاها من حصافته وعبقريته، فجاءت على هذه الصورة الرائعة من الدقة والإحكام، والعمق والشمول! |
وتعليمات عمر ووصاياه إلى ولاته الذين يجلسون مجلس القضاء تحمل دائماً هذا الطابع العمري الذي يضمن لمجلس القضاء تحقيق العدالة على مستوى رفيع، يحفظ لميزانها استقامته، ويمسك به أن يميل أو يضطرب! |
توجيهات عمر في القضاء |
"لا شك أن الذي يقرأ توجيهات عمر ووصاياه في القضاء يدرك أن في كيان هذا الرجل حاسة قضائية.. تتحسس مواطن الحق، وتضبط موازينه ضبطاً محكماً، فلا يفلت مجرم بجريمته، ولا يضل صاحب حق عن حقه. |
وعمر حين يجلس مجلس القضاء تلازمه صفتاه البارزتان فيه: الشدة، والعدل. |
فهو صارم شديد الصرامة على المنحرفين، والخارجين على حدود الله.. لا تأخذه فيهم شفقة ولا رحمة. |
غير أن هذه الشدة الصارمة تحرسها عدالة قاهرة غالبة. |
فشدة عمر وعدله يأتلفان ويمتزجان في نفسه.. فإذا رأيت شدته قلت: عدل صارم! وإذا رأيت عدله قلت: شدة عادلة! وبين شدة عمر وعدله حجاز من الخوف يضرب بجناحيه جانب الشدة إن اشتد، وجانب العدل إن عدل، فلا يبيت أبداً على طمأنينة ورضى! |
إن دخل عدله على شدته حسب أنه قد لان وقصر في حقوق الله.. وإن دخلت شدته على عدله خيل إليه أنه جار وظلم.. إنه أبداً في هذا القلق النفسي الذي لا يدع لضميره لحظة من هدوء أو استقرار. |
كلما أمضى أمراً على أي وجه من هذين الوجهين امتلأت نفسه خوفاً من أن يكون قد فرط أو أفرط.. فلا ينزاح هذا الخاطر من نفسه إلاّ أن يفزع إلى الله بالبكاء والاستغفار. |
بهذا الإحساس كان عمر يقيم الحدود، ويقضي في الحقوق تتنازعه خشية الله في اللين إن لان.. وخشيته في الشدة إن اشتد، وهو بين هذين في كرب كارب، وخوف مقيم! |
فالشدة في عمر إنما هي شدة لإقامة العدل، والانتصار للحق، والرحمة في عمر إنما هي رحمة لا تنتقص العدل، ولا تجور على الحق.. فإذا لم يكن ثمة عدوان على حد من حدود الله، أو اعتداء على حق من حقوق العباد، فعمر رحمة تمشى في الناس وحنان يرف على الوجود"!! |
|