العرب وابن خلدون |
الأستاذ أبو القاسم محمد كرو |
شغلت هذه القضية -قضية المؤرخ المفكر "عبد الرحمن بن خلدون" ورأيه في العرب، على النحو الذي ساقه في مقدمته الشهيرة "مقدمة ابن خلدون"- نقول شغلت هذه القضية أقلام بعض الكتّاب والباحثين في العصر الحديث. |
وقد أعلنها بعضهم صراحة، ودون أي تردد، أن المؤرخ الكبير كان متحاملاً على العرب، في رأيه الذي أبداه في المقدمة.. بل إن من هؤلاء الكتّاب أيضاً من ذهبت مغالاته إلى حد اتهام ابن خلدون بأنه "شعوبي" يكره العرب ولهذا السبب تحامل عليهم.. و.. وإلى آخر ما سنراه -مجملاً- في إلمامنا بهذا الكتاب. |
ومن الغريب أن نجد الذين تولوا توجيه هذا الاتهام، كتّاباً كباراً معروفين من أمثال محمد عبد الله عنان، وأحمد أمين، وطه حسين وغيرهم.. في حين لم يكن اتهامهم هذا مبنياً على أي أساس علمي.. وإنما كان التسرع وسوء التفسير لحمته وسداه.. ولقد أثبت ذلك بأدلة واقعية بسيطة واضحة تتحدى كل لون من ألوان المكابرة.. أثبته كتّاب منصفون محققون، تصدوا للدفاع النزيه السليم عن الرجل العبقري بحق "عبد الرحمن بن خلدون". |
وكان الكاتب الباحث المفكر الأستاذ ساطع الحصري أول من تصدى لهذا الموضوع في كتابه الرائع "دراسات عن ابن خلدون".. |
ومن الكتّاب الباحثين، ممن تصدوا لذلك أيضاً بصورة ليست مطولة، الأديب التونسي المعروف الأستاذ "أبو القاسم محمد كرو" في كتابه هذا القيم: "العرب وابن خلدون". |
وما من شك في أنه من خلال هذا العرض السريع للكتاب سوف يتضح للقارئ أن الاتهام الذي وجه إلى المؤرخ ابن خلدون في هذه القضية إنما كان اتهاماً ظالماً لا أساس له أصلاً وإنما دعا إليه -وهذا في أحسن الفروض- التسرع كما قلنا وسوء التفسير! |
* * * |
يقول المؤلف الأديب الأستاذ محمد كرو: إن أول ما أريد بحثه في هذا الكتاب هو: لماذا اخترت هذا الموضوع؟ ثم ماذا أعني به؟ |
وأعتقد أن في الجواب عن هذين السؤالين تحديداً للبحث وإيضاحاً للهدف، ودفعاً لكل التباس من بداية الطريق.. |
أما عن السؤال الأول: فإنني أحس من زمن بعيد أن ابن خلدون قد ظلم كثيراً، وإن أشد هذا الظلم قد جاء من أمته التي أدى إليها أعظم الخدمات، وارتفع بأمجادها الفكرية إلى السماء، ويزداد هذا الإحساس قوة إلى حد الألم عندما نرى كبار كتّاب العرب المعاصرين يتسابقون إلى الطعن في ابن خلدون والنيل من مكانته ومن تراثه، وحتى من نسبه ومن شرفه أيضاً. |
وما كان هذا ليثير في النفس شيئاً، لو أنه كان كله أو جله حقاً.. أما وهو منحرف عنه، بعيد عن العدل والإنصاف فإنه يكون ظلماً جارحاً يرتكبه خيرة أبناء هذه الأمة نحو أعز أبنائها.. |
ولم يكن هذا الظلم الثقيل ليقع لولا خطأ الناس -الباحثين والكاتبين- في فهم مقاصد ابن خلدون.. وخصوصاً في استعماله لكلمة "العرب" في مقدمته المشهورة، مما أدى إلى تحاملهم عليه بغير حق، وبلا مبرر علمي.. وقد زاد في حملته على العرب في مواضع مستوى التطور الفكري في عصر ابن خلدون، وقيم الأشياء ومصطلحاتها في أيامه، ومن ثم حكموا على آرائه ونظرياته، وعلى مصطلحاته ومفاهيمه بحقائق ومفاهيم عصرنا الحاضر. |
أما عن السؤال الثاني وهو: ماذا أعني بالعرب وابن خلدون..؟ فأظن أن الجواب عنه قد صار واضحاً الآن.. ومع ذلك فإن ما أعنيه على وجه التحديد هو موقف ابن خلدون من العرب.. وموقف العرب من ابن خلدون. |
.. إنه لمما يحز في النفس أن العرب بالرغم من انتشار مقدمته فيهم، فإنهم لم يدركوا شيئاً من قيمة ابن خلدون إلاّ في بداية هذا القرن، وبصورة خاصة بعد الحرب العالمية الأولى حينما أصدر طه حسين كتابه عن تراث ابن خلدون بعنوان "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية".. ولكن طه حسين -مع الأسف الشديد- قام يحطم في حماسة وجرأة أكثر ما قاله العلماء عن ابن خلدون وتراثه.. ولم يجد باباً أو سبيلاً للطعن إلاّ فتحه وعندما لا يجد باباً إلى ذلك، يضرب حقائق العلم والتاريخ بهواه مستعيناً إلى ذلك بمنطقه الجدلي الذي يعرفه عنه قراؤه وتلاميذه وسامعوه.. أما المقدمة نفسها، فإنها لم تنشر كاملة حتى الآن باللغة العربية إلاّ في بلاد الغرب.. أما النسخ التي طبعت في البلاد العربية فإنها جميعاً ناقصة ومشوهة وخالية من التحقيق العلمي المطلوب. |
على أن أهم كتاب وأصدقه وأوفاه علمياً وتاريخياً ظهر حتى الآن في البلاد العربية عن ابن خلدون وتراثه العلمي هو الدراسات العظيمة التي كتبها ونشرها العلامة الكبير ساطع الحصري.. فهي بحق تقوم على منهج صحيح وهي خالية من الشهوات والعواطف سواء منها ما يكون مع ابن خلدون أو عليه.. ويأتي بعد ساطع الحصري، كتاب الأستاذ محمد عبد الله عنان وإن تحامل على ابن خلدون في نواحٍ معينة واتجه في بحثه اتجاهاً إقليمياً يخالف أمانة العلم، ومنهجه السليم، ومع ذلك فإن عمله ثاني عمل بعد جهود الحصري القيمة.. |
ولكننا عندما نقيس بين ما كان ينبغي أن يوجه من الاهتمام والعناية لابن خلدون وتراثه، وبين ما حصل بالفعل، نجد الفرق هائلاً والجهود قليلة، ثم نشعر بخيبة أليمة وألم قاهر عندما نجد العرب زيادة عن تأخرهم في نشر آثاره وعدم تقديرهم المباشر لعبقريته ومركزه الكبير من تراثهم ومن الفكر الإنساني، نجد أن اهتمام العرب به محدود جداً، وأن ما وجه إليه من نقد قائم على الهوى والعاطفة أكثر من التقدير العلمي لآثاره ونظرياته. وهنا يصح أن نسأل: ما السبب في ذلك يا ترى..؟ |
في الواقع إن أهم سبب لعب دوراً خطيراً في النفور من ابن خلدون هو حديثه عن العرب الذي أسيء فهمه وتأويله إلى الحد البعيد.. حتى رأينا من يدعو إلى نبش قبر ابن خلدون، وحرق مؤلفاته.. فماذا قال ابن خلدون عن العرب؟ وكيف تحدث عنهم؟ |
أما عن السؤال الأول: ماذا قال ابن خلدون عن العرب؟
|
فإن الجواب عليه نجده في كلام ابن خلدون نفسه.. ولكن قبل أن نستعرض شيئاً من كلام ابن خلدون أود أن أقدم خلاصة لآرائه كما يرويها الأستاذ محمد عبد الله عنان لنرى بعد ذلك كيف يفسد التلخيص أحياناً آراء المؤلفين، ويحرفها عن أغراضها. يقول الأستاذ عنان: "وحديث ابن خلدون عن العرب طريف شائق رغم ما يطبعه من شدة وتحامل فالعرب في نظره أمة وحشية تقوم فتوحهم على النهب والعبث.. ولا يتغلبون إلاّ على البسائط السهلة، ولا يقدمون على اقتحام الجبال أو الهضاب لصعوبتها.. وإذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب، لأن طبائعهم من الرحلة وعدم الانقياد والخروج على النظام منافية للعمران، ولأنهم أهل تخريب ونهب.. يخربون المباني وينهبون الأرزاق ويفسدون الأعمال والصنائع، وهم أبعد الأمم عن سياسة الملك لأنهم -وهنا أرجو الانتباه وزيادة الملاحظة- لأنهم لبداوتهم وخشونتهم أكثر شعوراً بالاستقلال والحرية، لا يدينون لرئاسة أو نظام، وسياسة الملك تقتضي النظام والخضوع والانقياد.. |
ويواصل الأستاذ عنان كلامه فيقول: "ويستمر ابن خلدون في حملته على العرب في مواضع أخرى من مقدمته"، ومعنى هذا أن عبد الله عنان يعتقد أن ابن خلدون يدلي بآرائه وفق حملة منظمة ومقصودة منه ضد العرب.. ويعتقد عنان أيضاً أن ابن خلدون بربري بالرغم من انتسابه للعرب، وأن ذلك هو السبب في هذا التحامل بل سره الكامن في نفس ابن خلدون.. وحتى لا يتهم بالتعصب، فإني أترك عالماً مختصاً يتولى الرد على هذه المزاعم الباطلة.. فاستمعوا إلى الأستاذ ساطع الحصري وهو يفند هذه الأباطيل بكلام طويل قائم على الحوادث التاريخية ولكني أنقل إليكم نهايته فقط، قال الأستاذ ساطع: "ولكن كل ما هو معلوم وثابت عن حياة ابن خلدون لا يبرر مطلقاً وصف نشأته بالبربرية لأنه نشأ في بيت علم.. هاجر من الأندلس إلى تونس، وحافظ على مكانته العلمية جيلاً بعد جيل، ومن المعلوم أن تونس كانت ولا تزال بعيدة عن البربرية".. هكذا رد الأستاذ ساطع على اتهام عنان لابن خلدون بالنشأة البربرية! |
* * * |
والآن لنتصفح مقدمة ابن خلدون لنرى ماذا يقول هو نفسه عن العرب، لكي نتبين صحة هذه المزاعم التي حشرها عنان حشراً.. ولنبدأ بالفصل الذي يتضمن أقسى الأحكام وأعنف الحملات على العرب، ولنترك أيضاً الأستاذ ساطع الحصري يناقش ابن خلدون الحساب.. فأولاً الفصل الذي يقول فيه ابن خلدون "إن العرب إذا تغلبوا على أوطان أسرع إليها الخراب" ولنمعن النظر في الأدلة التي يذكرها لتعليل وتأييد رأيه هذا: |
".. فغاية الأحوال العادية كلها عندهم الرحلة والتغلب، وذلك مناقض للسكون الذي به العمران، ومناف له.. فالحجر مثلاً، إنما حاجتهم إليه لنصبه "أثافي" للقدر.. فينقلونها من المباني ويخربونها عليه ويعدونه لذلك، والخشب أيضاً إنما حاجتهم إليه ليعمروا به خيامهم ويتخذوا الأوتاد منه لبيوتهم فيخربون السقف عليهم. |
وبديهي أن مدار البحث هنا لا يتعدى البدو الرحل الذين يعيشون تحت الخيام.. |
ويمضي المؤلف في الإشارة إلى بعض ما ذكره ابن خلدون في هذا الصدد.. إلى أن يقول: |
مما لا شك فيه أن الفرق بين "العرب" والأعراب كان غير واضح تمام الوضوح منذ فجر الإسلام.. فإن كلمة العرب كانت تشمل الأعراب، فهي -إذن- أعمّ منها.. وهذا الخليفة عمر يقول: "العرب مادة الإسلام" وهو بلا شك إنما يقصد بالدرجة الأولى، هؤلاء المحاربين الأقوياء وهم سكان البادية، لكن مما لا شك فيه أيضاً أنه قصد معهم سكان الحواضر. |
.. وقد أجمع المؤرخون والباحثون المعاصرون من أوروبيين وغيرهم على أن كلمة "عرب" كان استعمالها الأول بمعنى "البدو" وأن هذا المعنى قد رافقها في جميع العصور التاريخية، وأن معنى الحضر لم يتصل بها إلاّ في فترة قليلة زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والخلافة الأموية، وأنها حتى في هذه الفترة لم تتجرد عن معناها الأصلي، بل كانت تطلق على البدو والحضر في وقت واحد.. وبعد هذه الفترة كان استعمالها غالباً بمعنى البدو.. وقد استمر هذا إلى العصر الحديث ولم تأخذ حدود معنى الأمة -استعمالاً دقيقاً- إلاّ عندما دخلت معاني هذه الكلمة "الأمة" ومفاهيم الوطنية والقومية إلى أفكار المثقفين من أبناء العرب المعاصرين.. |
ويستشهد المؤلف بما ذكره "برنارد لويس" أستاذ تاريخ الشرقَيْن الأدنى والأوسط في جامعة لندن حول كلمة "عرب" في كتابه "العرب في التاريخ" حيث يقول: "وأصل كلمة عربي ما يزال غامضاً على الرغم من أن علماء اللغة قد قدموا تفسيرات تختلف جودة وقبولاً.. |
وقد تولد ارتباط المعنى بالبداوة من أن العرب أنفسهم على ما يظهر استعملوا الكلمة منذ زمن قديم ليميزوا البدوي من سكان المدن والقرى الناطقين بالعربية، بل وما يزالون يفعلون ذلك إلى حد ما، حتى يومنا هذا.. |
ومنذ العصور السياسية المتأخرة وما بعدها ارتدت كلمة "العرب" إلى مدلولها القديم من بدو أو رحل.. وأصبحت في الحقيقة مصطلحاً اجتماعياً قبل أن تكون مصطلحاً جغرافياً بشرياً.. وتستعمل في كثير من تواريخ الحروب الصليبية الغربية لتدل على البدو فقط..". |
وينتهي البحث بهذا العالم الغربي الإنجليزي إلى "ابن خلدون" فيحسن فهم مقصده من كلمة "العرب" ومن استعماله لها.. أكثر مما فهمها هؤلاء الكتّاب العرب "الكبار"، بل ويحسن تصوير حالة المجتمعات العربية المعاصرة لابن خلدون وكيف كانت تستعمل هذه الكلمة وغيرها من مصطلحات المجتمعات البشرية في عصر ابن خلدون فيقول ".. ويستعمل ابن خلدون المؤرخ العربي من علماء القرن الرابع عشر الميلادي والذي كان هو نفسه حضرياً من سلالة عربية، الكلمة -عادةً- بهذا المعنى: البدو"، إلى أن يقول "برنارد لويس": |
".. وبينما بقيت جميع هذه الاستعمالات المختلفة إلى يومنا هذا دارجة في قرائن مختلفة.. ولد استعمال جديد، تحت تأثير الغرب، وأصبح في السنوات الخمسين الأخيرة يزداد أهمية، وهو الاستعمال الذي يعتبر الشعوب الناطقة بالعربية "أمة" أو "مجموعة" من الأمم الشقيقة بالمفهوم الأوروبي.. توحدها بلاد مشتركة، ولغة مشتركة وثقافة مشتركة وتشوق مشترك إلى الاستقلال السياسي. |
* * * |
وينتقل المؤلف بعد ذلك إلى الحديث عن أناس آخرين تصدوا لابن خلدون متهمين إياه بالشعوبية تارة، أو بالتحامل على العرب تارة أخرى.. ومن هؤلاء الدكتور طه حسين في كتابه "فلسفة ابن خلدون الاجتماعية"، ومحمد عبد الله عنان أيضاً في كتابه "ابن خلدون حياته وتراثه الفكري".. يقول المؤلف: و "طه حسين أشد انحرافاً عن الحق من صاحبه.. فهو لم يقتصر على رمي ابن خلدون بالشعوبية، بل أنكر أن تسمى مقدمة ابن خلدون تاريخاً، أو اجتماعاً، أو علماً.. كما حاول طه حسين، استناداً إلى أخطائه في الفهم، أو تقصيره في المراجعة، أن يحطم كل ما جاء به ابن خلدون.. وكذلك رماه بالكذب، والادعاء، والغرور؟ |
ويعقب المؤلف الأستاذ أبو القاسم محمد كرو على ذلك بقوله: "ولسنا ندري والله بعد ذلك من هو الأحق بهذه الصفات ولكننا نعلم أن ما قاله طه حسين كان باطلاً.. ومحض افتراء.. وسوء فهم وتفسير لآراء ابن خلدون!.." ويبدأ طه حسين سلسلة اتهاماته المنظمة ضد ابن خلدون بإعلان الشك في نسبه ويزعم فوق ذلك أن ابن خلدون نفسه قد شك في نسبه.. غير أن كتّاباً ثقات ردوا هذه المزاعم الباطلة رداً مسنوداً بالحقائق والبراهين، وأوفى رد وأقواه هو رد الأستاذ ساطع الحصري في دراساته القيمة عن مقدمة ابن خلدون، ثم رد الأستاذ فؤاد أفرام البستاني في حلقات روائعه الخاصة بابن خلدون، ومما زاد الأمر خطورة أن عبد الله عنان قد زعم بعد طه حسين أن ابن خلدون ينتمي في الواقع إلى الشعب البربري.. وأن هذا قد جعل ابن خلدون ذا "هوى خاص ونعرة بربرية واضحة وذلك ما يفسر لنا صرامته في الحملة على العرب..". |
فما صدق هذه الادعاءات؟ يقول البستاني: "والواقع أن ابن خلدون يلاحظ نقصاً في سرد أسماء جدوده بينه وبين خلدون فقط، ولكنه لا يتكلم عما وراء ذلك، ولا شك قطعاً في صحة نسبته إلى القبيلة الحضرمية". |
ويقول الحصري: ".. ومن الغريب أن بعض الكتّاب المعاصرين في مصر قد أثاروا بعض الشكوك في هذا النسب، من غير أن يستندوا إلى أي دليل علمي كان". ثم يستعرض الأستاذ ساطع الحصري آراء طه وعنان ويرد عليها رداً قوياً مبرهناً.. ويطعن طه حسين في أخلاق ابن خلدون أكثر من مرة في جوانب كثيرة من سلوكه حتى يكاد يعتقد القارئ أن طه لم يؤلف كتابه إلاّ للطعن في ابن خلدون وتشويه سيرته وتحطيم قيمه العلمية والأخلاقية والإنسانية أيضاً.. |
وقد أعلن من قبل عدد من علماء الغرب آراء في أخلاق ابن خلدون تعاكس ما ذهب إليه طه حسين.. وبعد أن يسرد المؤلف الفاضل بعض النماذج من المطاعن التي يكيلها إلى الفيلسوف العربي ابن خلدون عميد الأدب العربي الحديث، يعقب على ذلك بقوله: |
".. وبرغم أنه لا يهمنا هنا إلاّ ما يتصل بكلمة "العرب" فقد ذكرت تلك النماذج من السهام السامة التي يوجهها طه نحو ابن خلدون لنقيم الدليل على مدى التهور وعدم الاتزان اللذين يندفع بهما بعض كتّابنا "الكبار" نحو تراث أمتهم ومفاخرها الرائعة دون سبب علمي أو مبرر أخلاقي.. ومن هنا يمكننا أن ندرك كيف كان موقف العرب المعاصرين من ابن خلدون موقفاً لا يشرف المتمسكين به إطلاقاً.. ولولا الأستاذ ساطع الحصري الذي انبرى لا للدفاع عن ابن خلدون فقط، بل وللمقارنة بينه وبين مفكري أوروبا وعلمائها، وإظهار تفوق ابن خلدون وسبقه لهم زمناً وموضوعاً ومنهجاً، لولا هذا الرجل النزيه لضاعت على العرب هذه الحقائق الناصعة وفقدوا كل سبب يدعوهم إلى الاعتزاز بابن خلدون.. الرجل الذي بهر أوروبا وعلماءها، وهي في عنفوان مجدها العلمي وتفوقها الحضاري!". |
ومن كتّاب مصر ممن ذهبوا مذهب طه حسين في اعتبار ابن خلدون شعوبياً يعادي العرب ويتهجم عليهم بدافع من شعوبيته، الدكتور أحمد أمين.. وهنا يقول المؤلف: "اندهشت كثيراً لأن ما عرف به المرحوم أحمد أمين من تثبت واتزان وانقطاع للبحث والتأليف الموسوعي من شأنه أن يجنبه هذا المنزلق الخطر غير أنه -مع الأسف الشديد- قد اندفع في نفس التيار دون تثبت أو شعور بما تنتجه هذه الآراء المرتجلة من أخطار على الناشئة وعلى تراثنا القومي". |
ومن هؤلاء الكتّاب أيضاً "سلامة موسى" الذي يبدو أن المؤلف الفاضل يحسن به الظن إلى حد بعيد حيث يصفه بأنه "كاتب مستنير ورائد كبير من روّاد الحرية والفهم السديد بكثير من حقائق التاريخ والحياة والتقدم البشري العام الخ.. إلاّ أنه لم يتحر شيئاً من الحقيقة حين ذهب في تيار الأدباء الكبار.. الذين يتهمون ابن خلدون بالشعوبية". |
وأخيراً ينهي المؤلف نقاشه حول هذه القضية بتأكيد ما يأتي: |
1- أن قليلاً من التأمل والفهم السديد لمقدمة ابن خلدون يتضح منه أن ابن خلدون قد استعمل كلمة "العرب" بمعنى "الأعراب"، ومعنى هذا أنه لم يتحامل على العرب مطلقاً بل وصف الأعراب منهم وصفاً قد يكون مصيباً فيه، وقد لا يكون ولكنه في الحالين لم يكن يقصد غير الحقيقة العلمية التي يدل عليها منهجه في المقدمة.. |
2- إن كلمة "عرب" بمعنى الأمة حسب المفهوم الحديث لم يكن معناها معروفاً في عصره ولا في ما بعد، بل ظهر في العصر الحديث ودخل الفكر والأدب العربيين عن طريق الثقافة الأوروبية.. ومعنى هذا أن الأجيال التي جاءت بعد ابن خلدون لم تكن تفهم من كلمة "عرب" أكثر مما فهمه ابن خلدون. |
وإذا كانت كل الاتهامات الموجهة لابن خلدون في هذه القضية لم تنشأ سوى عن فهم فاسد لما قصده من كلمة العرب، فإن كل الاتهامات الأخرى ومنها اتهامه بالشعوبية واتهامه في نسبه على نحو ما يذهب إليه طه حسين وأشياعه تصبح باطلة هي الأخرى لأنها قامت على نفس الأساس الواهي الفاسد من الخطأ في الفهم والخطأ في التفسير. |
|