شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
لا شيوعيَّة.. ولا استعمار
الأستاذ عباس محمود العقاد
لا شيوعية ولا استعمار! هو ذا شعار كل أمة في هذا العصر خارج حدود المعسكرين الكبيرين الشرقي والغربي، أو الشيوعية والاستعمار..
والواقع أنه شعار ليس منه بد، بل ليس لأمة من الأمم خيار فيه، وعلى الأخص الأمم حديثة الاستقلال في كل من الشرقين الأدنى والأوسط، والقارة السمراء..!
وفي هذا الكتاب القيم يتحدث الأستاذ العقاد عن كل من الشيوعية والاستعمار بأسلوبه الرصين حديثاً مستوعباً كله موضوعية، وكله استقراء وبذلك يعطي القارئ العربي بالنسبة لهذا الموضوع الدقيق صورة أقرب إلى الشمول.
ولم يكن من غرض المرحوم العقاد في كتابه هذا -كما يقرر- أن يوازن بين الخطرين: الخطر الشيوعي والخطر الاستعماري، فكلاهما خطر -كما يؤكد- وكلاهما حقيق بالحذر والاجتناب.
ولا حيدة بين مصيبتين.. ولا إنصاف في الموازنة بين شرين فإن الحيدة والإنصاف عمل القضاء، الذي يتساوى لديه الطرفان، وأما المهدد بالمصاب فلا حيلة له غير العداء والمقاومة، فإن فعل غير ذلك فهو واقف من الشر موقف الغريب، بل هو واقف موقف الغريب من نفسه ومن وجوده، كأنه ينظر إلى وجود لا يعنيه..
وفي القسم الأول من الكتاب يتحدث المؤلف عن الشيوعية من أكثر من ناحية من نواحيها المتشابكة، وفي حديثه عنها من ناحيتها العلمية أو المادية ينتهي إلى القول أنها بالإيجاز "أفيون الشعوب" الرخيص وخمرتها المبذولة، يبلغ من سخفها أنها تصم الدين بهذه الوصمة، وتذهل عن حقيقتها هي، عن غباء مفرط، أو عن لجاجة في المكابرة والإنكار.. ثم يقول: إنما المسكر حقاً هو مذهب كارل ماركس من جميع نواحيه لأنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسؤولية، ويغريه بالتطاول والبذاء على ذوي الأقدار والعظماء، إنه يرفع عن الضمير شعوره بالمسؤولية لأنه يلقي بالمسؤوليات كلها على المجتمع، ويقول ويعيد للعجزة وذوي الجرائم والآثام إنهم ضحاياه المظلومون وإن التبعة كلها في عجزهم وإجرامهم واقعة عليه.
.. ومن الخطأ المتواتر أن يقال إن الشيوعية مذهب الطبقة العاملة، أو الطبقة الفقيرة، لأنها في لبابها مذهب طباع وأخلاق، يقبله كل من تلوثت طبائعه بلوثة اللؤم والأنانية وأسقط عن نفسه تبعة العمل، ومؤونة التكليف، وغلبت فيه الكراهية والحسد على محبة الخير للناس.. ولا يتقبل الشيوعية فقير محروم برئت نفسه من هذه اللوثة، واستقر في طبعه صدق الإيمان بالجد والكفاية، وإنما يتقبلها المحروم إذا خامرته مع الحرمان رذيلة الحسد والكسل، وسولت له الأنانية أن يطمع في جميع الحقوق، ويسقط عن كاهله جميع الفروض والتكاليف ومن كان كذلك من الأغنياء فهو شيوعي، وإن لم يكن من العاملين باليد، أو من ضحايا الحرمان.
وقد أسس الشيوعية اثنان لم يكونا من أبناء الطبقة العاملة ولا الطبقة الفقيرة؛ فكارل ماركس من الطبقة الوسطى، وفردريك إنجلز من الطبقة الغنية، ولكنهما من المستعدين للشيوعية بالطباع والأخلاق، وكلاهما نموذج للطبع الممسوخ في اتجاهين متقابلين.
وباب النجاة من وباء الشيوعية في ما يقرر المؤلف أنها مذهب لا يقوم على آرائه ولا على أخلاقه مجتمع صالح للبقاء والتعمير، إذ كانت في صميمها "سلبية" هادمة لا يقام عليها بناء من مادتها، ولا تصلح مادتها بحال من الأحوال للبناء.
ويمضي المؤلف إلى الفصل الثاني ليتحدث عن الروح القيصرية في النظام الشيوعي، ويقول في ذلك: وتوصف "روسيا الحمراء" بأنها دولة قيصرية لا تزال كما كانت في أيام القياصرة على سبيل المشابهة بين العهدين في جميع الخلال، ولكن التشبه أحرى أن ينقلب عند المقارنة بين القيصرية والشيوعية فلا تكون القيصرية مضرب المثل في مظاهر التسلط وتوسيع الملك واستبداد الحاكم بل تكون الشيوعية هي مضرب المثل في جميع هذه الخلال.
ذلك أن الدولة القيصرية لم تبلغ في عهد من عهودها المظلمة مبلغ الدولة الشيوعية في كثرة البلاد التي تحكمها ورهبة الجبروت على محكوميها واستطاعة الحاكم فيها أن يصنع بالأرواح والأموال ما بدا له متستراً بنصوص القوانين، أو مستبداً بالرأي جهرة غير مكترث لنص أو لقانون.
أما عن موقف الشيوعية مع العالم، ففي الفصل الذي عقده المؤلف حول هذا الموضوع يقول: الشيوعية دولة ومذهب أو دولة ودعوة، ولا تبرأ سياسة الدولة -ذات الدعوة- من دسائس النفاق والمراوغة.
فهي إذا كفت عن الدعوة في الأمم الأخرى، خانت مبادئها، وتنكرت لرسالتها، وتراءت في ظاهرها بغير ما تضمره في باطنها.. وهي إذا نشرت دعوتها لتشجيع الفتنة بين شعوب الدول الأخرى خانت قضية السلام، واصطنعت الغش في قواعد المعاملة الخارجية بينها وبين حلفائها وأعدائها.
ولا بد من باطن غير الظاهر في الحالتين، ولا بد من فقدان الثقة في سياسة الداخل والخارج.. وهي أساس كل علاقة صالحة.
وسياسة الأمس، وسياسة اليوم في الدولة الروسية على اتفاق في الوجهة العامة، وتزيد سياسة اليوم بالدعوة إلى مذهب الدولة، والاتجاه بها إلى إشاعة القلق والخراب في كل مكان ولا سيما بلاد المشرق التي يتطلع إليها "الرفقاء" الحمر كما تطلع إليها من قبلهم أصحاب التيجان.
ثم يقول المؤلف: إذا صح في أمر الشيوعية مع الأمم جميعاً أنها لا تقبل التوسط على سلام فهو أصح من ذلك بين الشيوعية والإسلام؛ فلا بقاء للشيوعية في بلاد تدين بالإسلام ولا بقاء للإسلام في بلاد تدين بالشيوعية، وكل سياسة تقوم على دعوة السلام والوفاق بين الشعوب الشيوعية وأصحاب العقائد المخالفة لها هي دعوة قائمة على نفاق وعلى تربص كمين كالتربص بين الأعداء المتسترين.
وقيام الشيوعية على هدم المجتمعات التي تخالفها، وإيمانها بأن الخير كل الخير في تفكيك أوصالها، وتعجيل زوالها حقيقتان لا تقبلان المغالطة، ولا يكون المتجاهل لهما إلاّ مغرضاً من البداءة، وهو يداري الغرض متشيعاً جد التشيع تحت سريان العدل والمساواة.
وإذا قال الشيوعي إنه يؤمن بالتعايش السلمي فمعنى ذلك أنه يكف عن تنفيذ مذهبه، أو أنه يرتاب في صدقه، ولا يؤمن ضربة لازب بانهدام المجتمعات العالمية في وقت قريب، ولا أمل له في نجاح الدولة من قبله ما لم يكن قد عدل حقاً عن الكيد لمن يعايشهم معاملة سلمية، والتربص بهم تربص الوارث بمن يترقب موته، ويعامله على هذا الأساس، وما هو بأساس صالح للمعايشة السلمية بل هو أساس المعاملة بين من يعيش ومن يموت.. أو بين الوارث والموروث المطموع فيه.
وفي هذا القسم الأول من الكتاب الخاص بالشيوعية أكثر من ناحية من نواحي هذا الموضوع أفاض فيها المؤلف في شمول وتركيز.
ثم ينتقل بنا إلى القسم الثاني من الكتاب وهو الخاص بالاستعمار..
يقول المؤلف: لقد كانت دعوى الاستعمار قائمة على "رسالة الرجل الأبيض" أو على الأمانة التي اضطلعت بها الحضارة الأوروبية لإصلاح أمم العالم..
وما كان في وسع القوم أن يخترعوا هذه الدعوى لو لم تسبقها دعوى مثلها من القارة الأوروبية، ترمي إلى غاية كهذه الغاية في زمانها، ونعني بها دعوى الحروب الصليبية.
ولقد مضى اليوم على آخر الحملات الصليبية نحو خمسة قرون، ولا يمكن أن يقال إنها اختفت من ميادين السياسة أو الدعاية، ولا تزال لها رجعات تتردد حيناً بعد حين في مساعي الجماعات والآحاد.
ويتابع المؤلف الكبير حديثه المفصل عن أسباب الاستعمار ثم عن سباق الاستعمار، ثم عن أنواع المستعمرات، وفي فصل من فصول الكتاب يتحدث عن آداب الاستعمار، فيقول: تعود الناس من الاستعمار قلة الصدق، وكثرة الكذب، وألفوا منه نقض المواثيق، وخلف المواعيد، وتسايرت الأمثال بهذه الخلة فيه حتى شهد بها زبانية الاستعمار، كما شهد بها ضحاياه، ولكنهم يشهدون بها اضطراراً ليقولوا إنها وسيلة تبرر الغاية وإنها حيلة معيبة في سبيل مصلحة محمودة.. وربما غلا بعضهم في دعواه فزعم أنها مصلحة للمغلوبين، ومصلحة للغالبين، وأنها في أمر المغلوبين كمصلحة الطفل القاصر الذي يساق إلى نفعه، ولا يقدر على إدراكه..
والاستعمار على اتفاق الأقوال كذوب، إلاّ أن الكذب خليقة نفسية يوصف بها الإنسان، ولا توصف بها الحركات الاجتماعية، أو حركات الأمم والحكومات.. وأصح من ذلك أن يقال إن الاستعمار مستغل يقوم على الأثرة، وإن آدابه كسياسته في هذه الخلة، فما تواضع عليه من آداب فهو آداب استغلال، وما تواضع عليه من سياسة فهو سياسة استغلال.
إنه يستغل الرذيلة، كما يستغل الفضيلة، يستغل الجبن والخسة، والحرص على المنفعة العاجلة، كما يستغل المبادئ الكريمة، والخلائق المحبوبة؛ فلو جمع ما قيل في الدعوة إلى الحرية والسلام والرقي والحضارة، لوقعت حصته الكبرى في جعبة المستعمرين، وما انقضت فترة قط في العصور الأخيرة على غير "رسالة إنسانية" جميلة يترنم بها دعاة الاستعمار من أصحاب السيف والنار، إلى أصحاب الأقلام والأفكار.
إلاّ أننا -يقول المؤلف- نتبرع للاستعمار بالشرف الأكبر إذا قلنا مع القائلين إنه يخلق ثلث الدعوات، ويخترع رسالتها اختراعاً من عنده ليدرك بها مأربه، ويخدم بها قضاياه.
وفي بعض المفسرين الماديين للتاريخ ولع بإسناد الرسالات الإنسانية منذ القدم إلى سماسرة الاستغلال من الساسة وأصحاب الأموال؛ فلا غيرة في رأيهم على حرية الأرقاء، ولا على قضية السلام، ولا على أمثالها من القضايا لولا المآرب التي يعمل لها المستعمرون والمستغلون، ويحاربون من أجلها من يحاربون.. أو يسالمون من يسالمون.. عدو جاهل ولا مراء ولو قال هؤلاء الماديون إن آداب الاستعمار زائفة وأن نياته غير خالصة، وأنه يستغل المبادئ بعد وجودها، واصطلاح الناس على إكبارها وتأييد العاملين لها لصدقوا وبلغوا ما يريدون من كشف النيات والتحذير من الخدع والأضاليل، ولكنهم يصيبون الإنسانية بكذب أقتل لها من كذب الاستعمار في أخبث دخائله حين يجحدون على الإنسانية قدرتها على التقدم، وينوطون فضائل التقدم كلها بأكاذيب المنافقين وأباطيل المكرة الخادعين.
المستعمر واستغلال قضايا السلام
وقضية السلام من القضايا العالمية التي نرى فيها نوعاً من الاستغلال لكل نوع من الاستعمار.. ولا نرى لها صورة من الصور يكون فيها دور الاستعمار دور اختراع وابتكار.
فالمستعمرون الذين شبعوا من الاستعمار ينصرون السلام لأن الحرب إما أن تكون ثورة عليهم من المغلوبين المطالبين بحقوقهم، أو منازعة لهم من الأقوياء الطامعين في تراثهم، وفي كلتا الحالتين يغنمون من السلم ما لا يغنمونه من القتال.
ثم يقول المؤلف في الفصل الذي عقده حول نهاية الاستعمار: أخذ الاستعمار في الزوال لأنه مرحلة من مراحل التاريخ التي لا توجد للدوام ولا بد أن تنتهي بانتهاء دورها عند زوال أسبابها ووصولها إلى غاية مداها.
ومن أسباب زوال هذه الأدوار أنها تجربة من تجارب الأمم في عالم المجهول، وأنها تنطوي على كثير من الأغلاط والمساوئ، كما تنطوي على كثير من الخطأ في التقدير ومن سوء الحساب عند القائمين بها والعاملين عليها.
إلاّ أن هذه المرحلة -مرحلة الاستعمار- كانت بدعة بين المراحل التاريخية بكثرة ما فيها من مزالق الاقتحام ومفاجآت المجهول.. وكانت أشواطها كلها كأنها خطوات مقتبسة يبتدئ بها السالك طريقه ويتوسطه قبل أن يعلم أنه قد ضل الطريق ثم يقف بين الخيرة والعناد، ويصر على العناد لأنه لا يستطيع الرجوع ولا يستطيع التسليم بالضلال.
وقد قيل بحق إن مرحلة الاستعمار الحديث قد بدأت في وقت واحد مع عصر الاكتشاف، أو عصر البحث عن الطريق المجهول.
صورتان فيهما ملامح واضحة -وإن تكن موجزة- لكل من الاستعمار والشيوعية في وضعهما الصحيح من تاريخ العصر الحاضر؛ فالاستعمار حركة من حركات التاريخ الدولي بلغت نهايتها، وفقدت حجة وجودها..
وإذا كان الاستعمار قد فقد مبدأه عند أصحابه، فهو من قبل ذلك لم يكن له مبدأ يستند إليه عند ضحاياه، فلم يوجد من قبل -ولن يوجد اليوم- إنسان ينتمي إلى بلد مغلوب، ينادي بمبدأ الاستعمار، ويتردد في وصف العاملين على خدمته في بلادهم بصفة الخيانة والإجرام. حركة من حركات التاريخ قد صارت إلى نهايتها، وأصبحت اليوم بغير قوام تستند إليه غير الواقع الذي يتراجع أمام واقع أعظم منه، وأجدر بالثبات في مجرى الحوادث، فليس للمستعمر اليوم مبدأ يسوغ به مطامعه، وليس لهذا المبدأ قيمة السند المرعي عند من ينتفع به فضلاً عن المنكوبين بدعواه.
هذا هو وضع الاستعمار في التاريخ الحديث.
أما الشيوعية فهي استعمار وشيء آخر غير الاستعمار.
ومصير الشيوعية المستعمرة كمصير الحركة كلها في مراحلها التاريخية، ولكنها تختلف كثيراً في أخطارها لأنها لا تأتي بأخطار خالصة من أخطار الدعوة التي تعم المستعمرين الشيوعيين وضحاياهم على السواء.
فإذا علمنا أن الاستعمار قد فقد حجته، وضيع مبدأه الذي يستند إليه فالشيوعية تدعو إلى مبدأ غيره بعد حين، وحجتها إذا حبطت في الحاضر أنها تعمل للمستقبل وترجو من النجاح فيه ما فاتها أن تدركه في خطواتها الأولى.
والخطر من الشيوعية أنها تُفقد ضحاياها القدرة على المقاومة لأنها لا تبقي لهم تلك الكرامة القومية التي تجمعت وما زالت تتجمع بين أبناء الأمم المحكومة، حتى اقتلعت الاستعمار من جذوره، وتكاد تقتلع تلك الجذور من كل أرض نبت فيها.
والكلمة الأخيرة في هذه العجالة: إننا إذا عرفنا مساوئ الشيوعية والاستعمار، فلا محل عندنا للشيوعية والاستعمار.. فإنهما شران لا تبقى منهما بقية، ويبقى معهما خير لأمة شرقية، وكل ما بين الشر والشر من فارق فهو الفارق في الجهود التي تلزمنا للتيقظ له والحيطة منه والسعي الناجح للخلاص من فعله ومن دعواه.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :703  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 15 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج