شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
بين الدين والعلم
الأستاذ عبد الرزاق نوفل
الصراع في أوروبا بين الدين والعلم لعب هنالك -كما هو معروف- دوره الملحوظ.. والواقع أنه ما كان لأي صراع يحدث بين الدين والعلم لولا تعصب الكنيسة من ناحية، ثم تطرف بعض رجال العلم من ناحية أخرى.. فالعلم لا يناقض الدين أصلاً والدين لا يرفض العلم حينما يكون العلم علماً بمعناه الأصيل، مستنداً إلى أصح الحقائق، ومبنياً على أصدق النظريات.. الدين والعلم كلاهما ينبع من مصدر واحد.. فكيف يتعارضان؟ وقد شغل هذا الصراع المزعوم بين الدين والعلم أفكار الناس لأمد طويل، واستقر في بعض الأذهان أن هناك خلافاً بالفعل بين العلم والدين! ومن هنا توالت البحوث في هذا الصدد، وتتابعت المناقشات، وصدرت الكتب الواحد تلو الآخر في هذا الموضوع.. وكان من نتيجة ذلك أن تراجع معظم القائلين بمعارضة الدين للعلم، بل أعلن الكثيرون من أقطاب العلماء الغربيين -في كل من أوروبا وأمريكا- أنهم مؤمنون بالدين ومؤمنون بوجود الله عز وجل.. وأن القول بوجود أي خلاف أو خصومة بين الدين والعلم قول خاطئ ليس له أي سند وليس له أي دليل..! والحق أن الأستاذ عبد الرزاق نوفل، صاحب المؤلفات الإسلامية العديدة ومؤلف هذا الكتاب القيم الذي نعرض له اليوم، من خير من تناولوا هذا الموضوع بالبحث والتحليل..!
إنه في كتابه هذا "بين الدين والعلم" يستعرض الموضوع بأسلوب علمي رصين فيه سهولة وإمتاع، مثبتاً فساد القول بمعارضة العلم للدين!
فالدين والعلم لا يمكن أن يتخاصما.. وكما أن الدين إنما يهدف إلى خير الإنسان وسعادة الإنسان، فكذلك العلم لا بد أن يستهدف بدوره هذا الهدف وإلاّ ما استحق هذه التسمية وما استحق أي تكريم..! والإسلام وهو خاتمة الأديان السماوية، لا مشاحة في أنه تبوأ مكاناً علياً في تكريمه للعلماء، وإحلاله العلم مكانه المرموق..
يقول الأستاذ نوفل في تقديمه للكتاب:
المتدبر لأغراض الدين والعلم يجد أنهما متحدان في الهدف متماثلان في الغاية.. أما مصدرهما فهو الواحد الأحد، الفرد الصمد سبحانه وتعالى.. فإذا كان الدين والعلم هدفهما واحد، ومصدرهما واحد.. فكيف ولماذا يتردد القول على فترات من الزمن بمعارضة العلم للدين، واختلاف الرأي بينهما؟
لقد أثبت البحث أن هذه الأقوال إن هي إلاّ أباطيل مغرضة تهدف إلى محاربة الدين، وأنها حلقة من سلسلة تتضمن وسائل أخرى تحاول هدم الدين بالتشكيك في معتقداته، وإظهار معارضة العلم لآياته.. كما عرف أن هناك من الأسباب ما قد يؤدي إلى إشاعة مثل هذه الآراء، منها قصور العلم عن إدراك بعض حقائق الدين لا سيما ما يختص منها بالحياة الآخرة والحساب والعقاب والثواب والقيامة، إذ إن ذلك لا يمكن أن يكون موضع دراسة تجريبية يتناولها العلم في ميادين أبحاثه ويجري عليها الاختبارات في بواتقه وأنابيبه، ومنها سبق الذين في ميادين العلم بإيراد حقائق لم يصل إليها العلم بعد، فيظهر الدين وكأنه يعارض العلم.. لذلك نجد أن الأزمنة التي تروج فيها شائعات معارضة العلم للدين إنما هي أزمنة الجدب العلمي وانخفاض مستوياته، بعكس الآونة التي تتميز بإيمان عميق، وتتمسك بالعلم والدين، وأصبح بذلك من المعروف الذي لا شك فيه أن الإلحاد والعلم نقيضان لا يجتمعان وخصمان لا يتفقان.
وفي هذه الفترة من تاريخ البشرية التي وثب فيها العلم وثبته العالية، والتي وصل بها الإنسان إلى ما يصل غيره إليه في تاريخه في مختلف ميادينه -بل وصل إلى ميدان لم يكن يرجوه في حلم أو رجاء من قبل، فخرج من رحاب الأرض إلى أجواز الفضاء، وهو الآن في طريقه إلى زيارة كواكب السماء- في هذه الفترة التي تعتبر قمة في تاريخ علم الإنسان هل يعارض العلم الدين ويحاربه، ويجافيه ويصارعه؟ أم ترى يوافقه ويؤيده ويعارضه ويسانده..؟ في هذه الفترة دعوت الله جل شأنه أن يصاحبني توفيقه الذي لازمني فأخرجت بفضل منه ورحمته كتبي السابقة، لأخرج كتاباً يربط بين العلم والدين، فكان كتابي هذا الذي أقدمه إلى هؤلاء الذين قد تكون أقلقتهم كتابات الملحدين، وأباطيل المغرضين، بدعاويهم الباطلة عن معارضة العلم للدين.. ليتأكدوا أن لا خلاف بين العلم والدين..
وإلى جيل شبابنا الذي تميز عصره بالعلم والمعرفة ليشهد أن حقائق العلم إنما هي آيات الدين.. وليكن كتابي هذا دعوة لهم للاستزادة من علمهم والتمسك بدينهم..
وإلى الباحثين الذين يريدون أن يدرسوا الأديان بعد أن قضوا زمناً في الإلحاد ثم تحقق لهم عن طريق التقدم العلمي وجوب الإيمان.. أقدم كتابي "بين الدين والعلم" ليعرفوا أن الإسلام دعوة إلى العلم والدين، وأنه الدين الذي لا يناقضه العلم ولا يعارضه العلماء.. بل يؤيده العلم، ويدعو إليه العلماء!
* * *
يتناول المؤلف في خمسة فصول مستفيضة موضوع البحث... فيتحدث في الفصل الأول عن متى بدأ العلم، ومتى بدأ الدين، وهو في هذا البحث ينتهي إلى تقرير أن الدين بدأ ببداية الإنسان، وأننا إذا رجعنا إلى الوراء وجدنا الإنسان الأول وقد آمن بالله إيماناً كاملاً.. إذ قد تلقى منه سبحانه وتعالى الإلهام، ورأى الآيات.. كما أثبتت الدراسات على اختلاف وسائلها أن العلم بدأ ببداية الإنسان -كما بدأ الدين- والقرآن الكريم يقرر هذه الحقيقة في آيات خلق الله لآدم إذ خلقه الله وعلمه كل شيء، وكما تلقى آدم من ربه العلم تلقى الدين بما أمره الله به ونهاه عنه.. كما تلقى كلمات التوبة كذلك.
وهكذا -يقول المؤلف- لم يعد الأمر في حاجة إلى دليل بعد أن اتفقت الدراسات والأبحاث مع ما جاءت به آيات القرآن الكريم على أن العلم بدأ مع الدين.. ومع بداية الإنسان.. فيا ترى هل يتعارضان بعد ذلك ويتناقضان؟ أم ترى لا بد يتفقان؟
ويتحدث في الفصل الثاني عن "أهداف العلم وأهداف الدين" فيقول: "كان المعتقد سابقاً أن أهداف العلم لا تلتقي وأهداف الدين، إذ إن العلم يسلك سبيل الحس والمشاهدة، وإنه يعني فقط بالحقيقة الموضوعية، ويقوم أساساً على التجريب المادي، بينما الدين يسلك سبيل التسليم بالمقدمات، وإنه يعني فقط بالحياة التي تصل إلى الناس عن طريق الرسل الذين أرسلهم الله سبحانه وتعالى، ولذلك فلا يمكن أن يكون موضوع التجريب المادي كما أن سبيله ليس سبيل العلم من حيث الحس والمشاهدة بل سبيله التسليم والتصديق، ولكن إذا كان العلم في كل ميادينه إنما يهدف أساساً إلى سعادة الإنسان، أفلا يتفق في ذلك مع الدين، إذ إن الدين لا يهدف إلاّ إلى سعادة الإنسان؟
فالعلم من أول أهدافه، بل هدفه الأساسي، توفير الحياة الكريمة السليمة السعيدة للإنسان. ومن أهم أهداف العلم تنمية العقل وهو وسيلة السعادة عند الإنسان، ثم يفيض المؤلف في ما أداه العلم من خدمات في مختلف الميادين.. وما يهدف إليه من خير الفرد، وصالح المجتمع، وسعادة البشرية بأجمعها.. ثم يتساءل: هل تهدف الأديان إلاّ إلى ذلك؟ ثم يقول: إن أول ما دعت إليه الرسل كافة هو الإيمان بالله وحده وعبادته وهذا هو أصل الأديان، فإن أساس الدين -أي دين وكل دين- هو الإيمان بالله وعبادته، وبهذا نادت الرسل والأنبياء في مختلف العصور.. فهل ذكر الإنسان منا كيف تكون حالة العالم لو انتشر الإلحاد وساد..؟ إن أي إنسان حرم مقومات الأخلاق لينشر في الأرض الفساد، ويصبح وهو الفرد الأعزل قوة هدّامة مخربة، تتجمع الجموع، وتحشد القوى لمحاربته.. فما بالنا لو أن مجتمعنا بأسره حرم الأخلاق؟ ويا ترى هل كانت تدوم الحياة لو أن أهل الأرض كانوا ملاحدة لا يردعهم دين ولا يمنعهم عن الشر إيمان؟ إن علماء الاجتماع قد وصلوا إلى حقائق عن طريق أبحاثهم ودراساتهم، وقرروا أن الإلحاد كارثة تصاب بها بعض الأمم الضالة أو الأفراد غير الكاملي الإدراك، وأن الإلحاد حيث يتفرع يؤدي إلى اضمحلال الأخلاق وفقدان الحرية.. وانهيار الحياة الاجتماعية من الوجهتين الخاصة والعامة، وحجب مقومات السعادة عن الأفراد والجماعات..
والإيمان بالله قد أثبتت الدراسات التربوية، والأبحاث النفسية، أنه يحقق للإنسان ما لا يستطيعه غيره، فهو وقاية وعلاج من كافة الأمراض النفسية والاضطرابات العصبية والعلل الجسمية التي تنشأ من عوامل القلق والتوتر العصبي والخوف، وقد أثبتت الدراسات الطبية أن من أهم أسباب الأمراض العضوية، الحالة العامة للإنسان والتي يسيطر عليها الجهاز العصبي والحالة النفسية للإنسان.. وقد أصبحت حقيقة العلاج النفسي عن طريق الإيمان بالله من وسائل الطب، فنجد أن علماء النفس وأطباءها قد تضمنت أقوالهم هذه الحكم بلا لبس أو غموض، فمثلاً يقول "وليم جيمس" أستاذ الفلسفة بجامعة هارفارد.. ومن علماء النفس: "إنما أعظم علاج للقلق ولا شك هو الإيمان". ويقول الدكتور "بريل" من كبار علماء النفس: "إن المرء المتدين حقاً لا يعاني قط مرضاً نفسياً"، ويقول: ديل كارنيجي أخصائي النفس المعروف: "إن أطباء النفس يدركون أن الإيمان القوي والاستمساك بالدين كفيلان بأن يقهرا القلق والتوتر العصبي، وأن يشفيا هذه الأمراض".. وهذا يقرره علماء النفس في كل مكان..
والإيمان بالله -يقول المؤلف- "يسبغ على نفس المؤمن الاطمئنان إلى رزقه فلا يطغيه إذا زاد، ولا يشقيه إذا نقص.. ولذلك فإن المؤمن بالله نجده لا يطمع في حق غيره ولا يحقد على من وسع الله عليه رزقه، ولا يحسد من وهبه الله أكثر مما أعطاه.. وعلاوة على ذلك يضفي على النفس سكينة وطمأنينة، فإنه سبيل إشاعة العدالة والحق والمحبة بين أفراد المجتمع بل كل المجتمعات في أنحاء العالم!
ويتابع المؤلف حديثه في هذا الفصل وينتهي منه -بعد حديث شامل عن تكاليف العبادات التي يوجبها الدين وما تهدف إليه من خير الإنسان وتأكيد لسعادته في دنياه وأخراه- إلى أن الدين يرسم للناس الطريق الذي يؤدي بهم إلى السعادة الكاملة المطلقة، وبهذا يتفق العلم في أغراضه مع الدين وأهدافه.. فلا يتعارضان -بعد ذلك- أو يتناقضان..! ثم ينتقل إلى الفصل الثالث، ليتحدث إلينا فيه عن "مصدر العلم ومصدر الدين" ويقول في ذلك: لا شك أن مصدر الأديان كلها هو الله سبحانه وتعالى الذي يصطفي من عباده رسلاً وأنبياء فيوحي إليهم ليكونوا دعاة لعبادة الله وحده ومبشرين ومنذرين.. ولقد أنزل جلّ شأنه على الرسل كتباً سماوية تحوي شرائع الحياة وعقائد الدين، ولا يعرف عدد هؤلاء الرسل والنبيين حتى ولو على وجه تقريبي.. ثم يتحدث عن الأديان الكبرى: ديناً ديناً.. ثم يتحدث عن العلم ويستعرض حياة كثيرين من العلماء والمخترعين ويقول: لقد دامت أبحاث العلماء عشرات السنين وهم يدرسون مصدر العلم، وهل هناك علاقة بين العلم والذكاء أو بين العلم والصفات التشريحية للإنسان.. ويقول في ما يقوله: إن الملاحظات التي أثبتها العلماء على الأطفال الذين لا يمكن أن يكون لديهم أي قدر من العلم أو المعرفة وتصرفاتهم تطابق أعلى درجات العلم، بل تسبق العلم بما تؤكد أن الله وحده هو مصدر العلم، ويشير إلى ما تذكره كتب العلم عن أطفال كثيرين أثاروا دهشة البحاث وأكدوا أن العلم إنما هو فيض يتلقاه الإنسان من خارجه، بل يقرر العلماء والبحاث -أيضاً- أن الحيوانات والطيور قد وصلت إلى درجة من العلم سبقت به الإنسان، أفيكون عقلها وتجاربها هو مصدر علمها؟
إن مصدر العلم لا شك هو الله وحده جل شأنه الذي يقول: وَاتَّقُواْ اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ (البقرة: 282).. فإذا كان مصدر العلم هو مصدر الدين، فهل يعارض العلم الدين ويناقضه؟ أم لا بد يتفق معه ويؤيده؟.. ويشير في الفصل الرابع بأنه "لا تعارض بين العلم والدين"، ويقول: "إذا كان العلم يتفق مع الدين في الهدف، ويرتبط معه في المصدر، فكيف إذن تتردد الأقوال أحياناً بأن العلم والدين لا يتفقان، ولماذا يظهر العلم أحياناً وكأنه يعارض الدين..؟ إننا إذا تتبعنا تلك الأقوال التي تشير إلى معارضة الدين للعلم، وعدم تأييد العلم للدين، نجد أنها تروج وتنتشر في أزمنة الإلحاد.. بل إنها تعتبر القمة التي ينطلق منها دعاة الإلحاد في نشر معتقداتهم، إذ ليس هناك من دليل واحد يمكن للملحدين أن يستندوا إليه في إثبات رأيهم ولا يوجد برهان يؤكدون به أقوالهم، وقد ينشر البعض هذه الأقوال دفاعاً عن خطأ في رأيهم يظنونه صواباً.. فيتخذون من ترديد الأقوال التي تثير الشبهة حول موقف العلم من الدين ذريعة لتبرير موقفهم من سوء ما يعتقدون!
وكذلك من الأسباب التي تدفعهم إلى ترديد هذه الأقوال رغبة البعض في اكتساب شهرة على حساب مخالفة الإجماع حتى ولو كان ذلك باعتناق آراء يعتقدون في سريرتهم بفسادها..
كما أن بعض الدول تدعو إلى تشجيع مثل هذه الآراء لإثارة الشك في الدين.. إذ تعتمد هذه الدول في سياستها على هدم الدين، باعتبار أن الدين عموماً سيتنافى مع ما رسمته هذه الدول لنفسها من سياسة في الحكم.. فالدكتاتورية، وحكم الفرد المطلق، واستغلال الطبقات الكادحة، والتفرقة الطائفية، والخلافات العنصرية، كل هذا ومثله يعارضه الدين.. فلا يمكن لدولة سياستها تنافي الدين أن تقوم إلاّ إذا هدمت الدين تماماً، وأول خطوة في سبيل ذلك هو إثارة الشك في نفوس الناس في الدين.. ولا يجدون إلاّ إشاعة معارضة العلم للدين، وحرب الدين للعلم والعلماء..
وقد تنتشر هذه الآراء لقصور العلم عن إدراك بعض الحقائق التي جاءت بها الأديان ومحاولة الإنسان عرض غيبيات الأديان على مقاييس العلم، ومحاولته كذلك فهم غير المحسوس والملموس بالعقل البشري.. وكذلك فإن من أسباب انتشار هذه الأقوال ظهور نظريات عن الخلق والحياة، تعارض ما تقول به الأديان.. وبالرغم من أن أصحاب هذه النظريات يعترفون بخطئها تصريحاً أو تلميحاً، ويعلنون بعدها مخالفتهم لها، أو على الأقل عدم قيام الدليل على صحتها، فإن البعض -سعياً وراء الجديد، حتى ولو كان خطأ- يرددون ويناقشون ويؤيدون مثل تلك النظريات التي تبرأ أصحابها منها، أو على الأقل صحح تلاميذهم من بعدهم آراءهم.. فهذا مثلاً "تشارلز داروين" وجد أثناء رحلة بحرية أن الأنواع الحية -وبخاصة الحيوانية منها- تتشابه تشابهاً عميقاً من حيث بنية الجسم وتتفرع إلى أصناف متفرقة على حسب بيئتها، فافترض أن كل الأنواع الحالية من الأحياء يمكن أن تكون ذات أصل واحد، أو بضعة أصول تتنوع طبقاً لقانون الانتخاب الطبيعي، أو بقاء الأصلح.. إلى آخر ما شرحه في هذا الصدد.. ثم قال بوجود عقل للحيوان وأنه امتداد للحس، وعندما شاع أن نظرية داروين إنما هي نظرية مادية إلحادية وقد كان داروين مؤمناً بالله، أعلن بصراحة العلماء أن الحياة لغز من الألغاز وأن ما في العالم من نظام يشهد بعناية إلهية.. وكان آخر ما كتبه يستحيل على العقل الرشيد أن تمر به ذرة من الشك في أن هذا العالم الفسيح بما فيه من الآيات البالغة قد صدر عن مصادفة، لأن المصادفة لا تخلق نظاماً ولا تبدع حكماً وذلك عندي أكبر دليل على وجود الله.. وقد أعلنت معظم الجامعات العلمية في سويسرا وأمريكا وغيرها أنه قد ثبت خطأ نظرية داروين في أصل الأنواع، وبالرغم من ذلك فقد ظلت نظرية داروين تتردد بين الناس طويلاً. وهذا "توماس هكسلي" الذي أثار أكبر ضجة ومهاترة، وحمل لواء الحرب بين العلم والدين لفترة طويلة -وهو الذي سبق داروين بالقول بنظرية التطور وتطبيقها على الإنسان- أعلن أسفه لأنه كان السبب في تضليل كثيرين اعتمدوا على شهرته، واستشهدوا به في تأييد التولد الذاتي، وللأسف -يقول المؤلف: ما زال البعض في سبيل الظهور أمام الناس بمظهر الباحث العالم يردد بعض ما كان قد ورد في كتب هكسلي التي تعتبر نظريات خاطئة أعلن صاحبها ذلك، ونظرية التولد هذه إنما تعارض الدين!
وأما ما يشاع عن معارضة العلم للإسلام فإنه قول باطل يردده خصوم الإسلام لإثارة الشك فيه، بعد أن فشلت كل جهودهم في مهاجمتهم لعقائده.. ولعلّ هؤلاء الخصوم قد استندوا في باطل دعواهم هذه على الإسرائيليات التي دسها المغرضون في بعض تفاسير القرآن ونقلها البعض عنهم بعد ذلك.. فقد كان من حرب اليهود للمسلمين أن يعتنق البعض منهم الإسلام حتى يمكنه بذلك أن يدس على المسلمين أحاديث غير صحيحة، ويضع تفاسير لآيات كريمة لا تطابق الحقيقة وإنما لتباعد بين الآية وما قصدت إليه..
ويمضي المؤلف في حديثه إلى أن يقول: "إن الشواهد لتؤكد أن موجة الإلحاد التي كانت منتشرة في بعض الجهات في طريقها إلى الانحسار بل إلى العدم.. فقد تتابع إيمان العلماء الذين ظلوا يحاربون الدين أمداً طويلاً، ونسمع الآن في كل مكان من العالم النداءات الصادقة التي تطالب بمزيد من المعرفة عن الأديان.. ولقد أدهش كبار الأطباء في دول مختلفة ما وصل إلى علمهم من أن القرآن الكريم أورد حقائق الخلق وقرر تطورات الجنين في مختلف أدواره قبل أن يصل العلم إليها بعشرات المئات من السنين، وقبل استعمال الأجهزة والأشعة والمجاهر.. وأدهشهم أكثر ألاّ يعتني المسلمون بإظهار هذه الحقائق العلمية الكفيلة وحدها بنشر هذا الدين، بين الأوساط العلمية وجمهرة المتعلمين في أنحاء العالم وهؤلاء هم أغلبية سكان الأرض حالياً، وأن هؤلاء الذين يعتنقون الإسلام كل يوم بل كل ساعة من علماء روسيا ومهندسي ألمانيا وقادة الفكر بإنجلترا ورجال الأعمال بأمريكا، إنما اهتدوا إلى الحق بأبحاثهم التي قاموا بها منفردين.. دون ضغط من أي من المسلمين.. فيا ترى كيف لو قام المسلمون بواجبهم الذي فرضه عليهم الإسلام فرضاً.. فإن الدعوة الإسلامية ليست للعرب وحدهم إنما هي للجميع.. إذن فقد وجب على المسلمين تبليغ الدعوة إلى كافة جهات العالم، وإذا كان هذا هو الذي يفرضه الإسلام على المسلمين في كل وقت، فإنه في الوقت الحاضر لأكثر وجوباً من أي وقت آخر، إذ إن العالم الآن يمر بفترة مشرقة من الإيمان بالله، ولا يحتاج أمر التبليغ شيئاً، ولا يستلزم منا جهداً.. إذ لم ينتشر الإسلام بحروب أعلنت أو أموال أنفقت، أو أكاذيب رددت، إنما هي حقائقه وقد أوضحت وعقائده وقد أفهمت.. فآمن بها كل من تأملها، واعتنقها كل من تدبرها، فعلى المسلمين أداء ما يفرضه عليهم الإسلام من وجوب نشر حقائق الإسلام، وإظهار أوجه إعجاز القرآن بالطريقة التي تلائم العصر.. وتناسب الوقت..
ثم يقول المؤلف وهو ينهي هذا الفصل، بعد أن يشرح لنا ما يراه من وسائل للقيام بنشر الحقائق عن الإسلام: "إن هذه لهي وسائل أداء الأمانة: أمانة تبليغ الدعوة الإسلامية إلى العالم، لا سيما في هذا الوقت الذي قارب العالم أن يصل فيه إلى قمة العلم.. وتشير الأدلة إلى إشراق عهد جديد أهم ما يميزه رجوع الناس جميعاً إلى الله.. والعودة إلى الدين..
وأخيراً، وفي الفصل الخامس والأخير من الكتاب، وتحت عنوان "الإسلام يدعو إلى العلم.. ويدعو إليه العلماء".. يقول ضمن ما يقول: "إن دعوة الإسلام إلى العلم لم تعد في حاجة إلى دليل لإثباتها بعد أن قررتها الحقائق القاطعة التي لا تحتاج إلى مزيد من البيان..".
ويقول: "وتدعو آيات القرآن الكريم إلى النظر في كل ما يحيط بالإنسان بل وفي نفسه.. وليست الدعوة إلى النظر والتي وردت في آيات كثيرة هي دعوة للرؤية السطحية العابرة، بل إن النظر يقصد به الدراسة العميقة، والبحث المستمر".
"بل إن القرآن الكريم قد سبق العصر الحديث في تقريره لوسائل الدراسة الحديثة".
"ومن وسائل الدراسة العلمية التي سبق بها الإسلام قيام البعثات الكشفية التي تجوب أنحاء العالم تبحث في الحفريات والآثار عن أصل الخلق.. هذه البعثات التي نراها الآن تذهب إلى كافة البلاد وتعيش مدداً طويلة تبحث في الأحجار، وتحت المحيطات، وفي الوديان والجبال.. تقدر أعمال ما تراه وتحاول أن تصل بدراسة ما تراه من آثار على عمر الوجود، وعلى حياة الإنسان.. وأين عاش، وكيف كان..؟ ألا يسبق القرآن الكريم العلم عندما قرر هذه الوسيلة في الآية الشريفة: قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ (العنكبوت: 20).
"ولما كان العقل هو ميدان العلم فإن الإسلام طالب الناس بالتعقل، وتنمية العقل لا تكون إلاّ بالعلم، فمطالبة الإسلام إذن بالتعقل إنما هو بطلب العلم، وقد تردد ذلك في القرآن الكريم حوالى 49 مرة..".
"ولا يقتصر الأمر على الدعوة إلى العلم ولكن يسير القرآن الكريم بالناس في ميدان العلم إلى أكثر من ذلك.. إنه أورد حقائق العلوم على اختلافها بلا لبس أو غموض، والقرآن عندما يقرر الحقيقة العلمية لا يورد تفاصيلها، ولا يحدد تطوراتها، إنما يسبق العلم بأن يقرر الحقيقة ويترك للمسلمين وسائل البحث والدراسة التي تؤدي إلى الوصول لهذه الحقيقة.. وبذلك يكون القرآن قد أورد وجهاً من إعجازه، يتجلى في هذه الحقائق العلمية، وسبقه العلم في ميادينها، ويكون أيضاً قد دفع المسلمين إلى البحث والدراسة".. ولا يتسع المجال إلى بيان الآيات العلمية في القرآن الكريم، والتي سبقت العلوم في كافة قطاعاتها، حتى ولو كان إيراد آية واحدة في كل فرع من العلوم، وقد أصبح الإعجاز العلمي للقرآن الكريم مما لا يحتاج إلى دليل على بيانه، فقد اجتهد العلماء في ميدانه، وفي كل يوم يضيفون إلى هذا الإعجاز إشراقات جديدة، تؤكد أنه وحي الله سبحانه وتعالى أوحى به إلى خاتم رسله وأنبيائه ليكون معجزة أبدية يؤمن بها كافة الناس في كافة الأزمنة، ومختلف الأجيال! ولا يقتصر إعجاز القرآن العلمي على العلوم التي قد تسمى بالعلوم الطبيعية، بل إنه باعتراف الخصوم وشهادة الأعداء قد حوى كل أسباب قيام المجتمع الصالح الذي يتعاون أفراده وتتحاب جماعاته وتتساند هيأته، ويطيع ناسه ولاته ويعدل ولاته بين أبنائه، ولذا فإن القرآن لم يترك علاقة تقوم بين فرد وآخر: الزوج وزوجه.. الابن ووالده، الجار وجاره، البائع والمشتري، المقرض والمقترض، الحاكم والمحكوم، إلاّ وأورد أساسها.. حدد معالمها.. وبذلك فقد سبق كافة التشريعات والقوانين في تقرير حقوق الأفراد وواجباتهم، ووضع القرآن الكريم نظاماً مالياً محكماً، يحقق صالح المجتمع وسعادة الفرد، ولا يمكن لأي نظام وضعي أن يرقى -ولن يستطيع- إلى النظام الإسلامي، ففيه كل مزايا الأنظمة الوضعية دون مبالغتها التي تفقدها صلاحيتها للجميع ودون عيوبها فهو نظام شامل في عدله، محقق لسعادة كافة أفراده، لا يعادي رأس المال ولا يشجع على طغيانه.. ولا يهدم الفردية، ولا يوافق على سيطرة فرد على مجموعة تسبب احتكاراً أو استغلالاً.. يشجع على العمل والثراء عن طريق الكسب الحلال مع مراعاة الفقير والمحتاج فله حق ثابت، ونسبة محدودة.. وعليه بعد ذلك الصدقة ما أمكنه إلى ذلك السبيل.. وهكذا أنهى الإسلام عهد الخرافة التي كانت تقول بمعارضة العلم للدين..
 
طباعة

تعليق

 القراءات :652  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 14 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج