جَمَال الدِّين الأفغاني |
الأستاذ محمود أبو ريَّه |
قال عنه "رينان" المفكر الفرنسي المشهور عندما التقى به في باريس عام 1883م أنه ذكره -وهو يتحدث إليه- أحد من عرفهم من القدماء.. وأنه يرى وجهاً لوجه "ابن سينا" و "ابن رشد" أو واحداً من أولئك المفكرين العظام، الذين ظلوا يعملون خمسة قرون على تحرير الإنسانية من الأسار! |
وقال رينان أيضاً: "لقد تعرفت بالشيخ جمال الدين فوقع في نفسي منه ما لم يقع إلاّ من القليلين، وأثر فيّ تأثيراً قوياً.. وجرى بيننا حديث عقدت من أجله النية على أن تكون علاقة العلم بالإسلام، موضوع محاضرة في السربون..". |
ذلك ما قاله المفكر الناقد "رينان" وهو ينوه بزعيم النهضة الحديثة في الشرق ورائد البعث الجديد، وأول من حمل بقلمه وبلسانه وبفكره راية النضال خفاقة ضد الاستعمار الغربي في عصر كان فيه الشرق جميعه، وكان فيه العالم الإسلامي من أدناه إلى أقصاه، يعيش في تخلف مميت بعد أن ساد في جماهيره الجهل لعدة قرون طويلة وجاءه الاستعمار -في الأخير- بجحافله الجرارة وبسلاحه الذي لم يكن للشرق به عهد.. يغزوه في عقر داره ليثأر لنفسه أولاً من هزيمته الشنعاء في فلسطين أمام البطل "صلاح الدين".. ثم لينهب ما شاء له أن ينهب من خيراته وثرواته. |
وحقاً لقد هز النفوس الراكدة جمال الدين الأفغاني، وأيقظ الأفكار ونبه العقول، وأبان للناس في عصر مبكر جداً مدى خطر هذا الاستعمار، ومدى ما يكمن وراءه من شر مستطير، وكان على رأس الداعين إلى التحرر وإلى الأخذ بأسباب القوة وإلى العمل الجاد المتواصل من أجل التقدم، ومن أجل الحرية، ومن أجل الاستقلال. |
وكانت الوحدة الإسلامية من أهم الأهداف التي ظل يدعو إليها جمال الدين الأفغاني! |
ولقد أنجب جمال الدين عشرات التلاميذ ممن ساروا بعده على نهجه، ومشوا في طريقه، وكان منهم معظم البارزين من العلماء والزعماء في القرن العشرين. |
هذا هو جمال الدين الأفغاني، وقد خصه مؤلف هذا الكتاب بحديث شامل، ولو أنه جاء موجزاً كل الإيجاز.. |
* * * |
يقول المؤلف: |
كان الشرق -وهو مهبط الأديان- كما يجب أن يكون: مشرق النور، ومبعث الهداية، وكان يرسل نوره إلى كل أرض، وينشر هدايته على كل قبيل، وظل على ذلك قروناً حتى حاق به ما حاق من العلل والنوائب، وأصاب أهله ما أصابهم من المحن والشدائد فانطفأ نوره وغربت شمس هدايته، وسيطر عليه الأوروبيون فجعلوه بينهم نهباً مقسماً يستغلونه بعلمهم ويستأكلونه بقوتهم.. |
ولم تنحصر شهوة الاستعمار الأوروبي في الدول الكبرى فحسب.. وإنما تسابقت الدول الصغرى -هي الأخرى- لتنال نصيبها من الغنيمة الإسلامية، فاستولت على الأقطار الصغيرة من بلاد الإسلام ولم يكن ذلك كله ليتهيأ للغرب إلاّ لأن العالم الإسلامي كان قد بلغ من الضعف مبلغاً أفقده الحس والحركة.. |
ولم يكتف الغرب باستعمار الشرق وتسخيره وابتزاز كل خيراته، بل أخذ يعامله معاملة قاسية لا رحمة فيها ولا عدل وغالى في إيذائه وإهانته كأن أهله لم يكونوا من البشر.. |
وإذا استقرى الباحث حالة الشرق الاجتماعية في عصر السيد جمال الدين الأفغاني يجد أنها بلغت أقصى الغاية من التأخر والانحطاط، وإذا أبعد النظر في مطارح البحث عن الأسباب التي أدت به إلى هذه الحالة السيئة بان له أن مرد ذلك إنما يرجع إلى داء الجهل الوبيل الذي أطبق ظلامه على بلاده جميعاً، ومن أجل ذلك كانت هذه البلاد مباءة للأوهام والخرافات المهلكة وقرارة للعادات والبدع الموبقة. |
وبهذه العلل الفتاكة سادت بين أهله الأساليب الضارة في حياتهم ومعايشهم ونظمهم حتى أصبحوا في ساقة الأمم تأخراً وذلة. |
وبجانب هذه الأدواء انتشر فيهم داء التفرق المهلك، لا بين الأمم الشرقية وحدها بل بين أفرادها، فلا تجد رابطة اجتماعية تجمعهم على الاتحاد في ما يعود بالنفع عليهم ولا ترى صلة إنسانية تربطهم ليتعاونوا على ما فيه مصلحتهم.. وبذلك أخذهم الفقر من كل أقطارهم على غنى بلادهم واتساعها وخصبها. |
وناهيك بتوسل المسلمين بالقبور.. ومن تركهم لاتخاذ الأسباب -مثلاً إذا أحدهم أصابه مرض لا يلجأ إلى وسائل الطب المعروفة بل يعمد إلى الدجالين ليداووه بالتعاويذ.. أو يذهب إلى أحد الأضرحة متوسلاً بما فيها ليشفي مرضه! وبذلك تذهب النفوس فريسة للأمراض والعلل وقس على ذلك في كل أمورهم وأحوالهم. |
ولأن الأجنبي الذي تحكم فيهم واستعمر بلادهم يريد أن يدوم سلطانه عليهم ويستمر نفوذه فيهم، فقد مد لهم في حبل ضلالهم وزين لهم من خرافاتهم وأعانهم على أوهامهم وحرمهم العلم النافع الذي يشفي من دائهم، أو يوقظهم من سباتهم. |
تلك كانت حالة الشرق الاجتماعية في عصر جمال الدين.. مبينة بإيجاز.. |
لما توالت ضربات سياط المظالم على الشرق، وطال عليه وخز أسنة الطغيان، استيقظ من غفلته، وأخذ يلتفت إلى نفسه فيرى شقاء حاله، وسوء ماله، وما لبث أن أخذ قلبه يضطرب ويجيش، ونشأ عن ذلك أن دبت الروح الإسلامية في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي، فظهرت دعوة محمد بن عبد الوهاب في جزيرة العرب، في مطلع القرن التاسع عشر، وقام السنوسي بدعوته.. وشبت ثورة المهدي في السودان.. وانتشرت هذه اليقظة بزعامة رجالها وغايتها كلها مقاومة الغرب، وصد سيطرته، وقد اتخذ كل زعيم طريقاً لسعيه ومقاومته وهنا برز إلى الميدان السيد جمال الدين الأفغاني. |
من هو جمال الدين؟ |
يتحدث المؤلف عن نشأته في أسد أباد حيث ولد بها سنة 1254هـ ثم عن تلقيه للعلم وما كان من أمر رحلاته إلى الهند والحجاز حيث وافى مكة في عام 1273هـ وأدى فريضة الحج ثم عاد إلى بلاده أفغانستان ومنها رحل إلى الهند مرة أخرى ثم إلى مصر وإلى تركيا حيث عين بها عضواً بمجلس المعارف، ثم رحل إلى باريس ولندن ومن باريس استدعى إليه الأستاذ محمد عبده وكان منفياً في سورية فأقاما معاً في باريس ثلاث سنين أصدرا في أثنائها جريدة "العروة الوثقى"، ولقي وهو في باريس الفيلسوف "رينان" ونشر أفكاره السياسية التي كان يحارب بها تدخل الدول الغربية في شؤون الأمم الإسلامية.. وكان ذلك في مقالات تداولتها الجرائد الكبرى وامتدت إليها أعناق الدوائر السياسية المشتغلة بشؤون الشرق. |
وبقي ينتقل في أوروبا بين باريس ولندن يتصل بالعلماء والكتّاب ورجال السياسة وجمع مستر بلانت بينه وبين اللورد سالسبري واللورد تشرشل للمفاوضة في أمر ثورة المهدي في السودان. |
بعد ذلك سافر إلى البلاد الإيرانية ثم غادرها إلى روسيا ومن روسيا سافر إلى باريس يزور معرضها الكبير سنة 1889م. |
في سنة 1890م ذهب إلى لندن مرة أخرى وكان من المؤسسين للمجلة الشهرية "أخبار الخافقين" التي كانت تصدر بالعربية والإنكليزية. |
في أثناء وجوده بلندن استدعاه السلطان عبد الحميد إلى الآستانة حيث بقي بها إلى أن توفي في 9 مارس سنة 1897م. وصف "لوثروب" السيد جمال الدين الأفغاني في كتابه "حاضر العالم الإسلامي" فقال: "بلغ من علو المنزلة في المسلمين ما قلّ أن يبلغ مثله سواه، وكان سائحاً جواباً طاف العالم الإسلامي قطراً قطراً، وجال غربي أوروبة بلداً بلداً فاكتسب من هذه السياحات الكبرى ومن الاطلاع العميق والتبحر الواسع في سير العالم والأمم علماً راسخاً واكتنه أسراراً خفية واستبطن غوامض كثيرة فأعانه ذلك على القيام بجلائل الأعمال التي قام بها، وكان بعامل سجيته وطبعه وخلفه زعيماً مسلماً كبيراً، فكأنه على وفور استعداده ومواهبه إنما خلقه الله في المسلمين لنشر الدعوة فحسب فانقادت له نفوسهم، وطافت متعاقدة من حوله قلوبهم.. |
ولقد كان أول مسلم أيقن بخطر السيطرة الغربية المنتشرة في الشرق وأدرك شؤم المستقبل، وما سينزل بساحة الإسلام والمسلمين من النائبة الكبرى إذا لبث الشرق الإسلامي على حال مثل حاله التي كان عليها، فهب جمال الدين يضحي نفسه، ويفني حياته في سبيل إيقاظ العالم الإسلامي وإنذاره بسوء العقبى ويدعوه إلى إعداد ذرائع الدفاع لساعة يصيح فيها النفير.. فلما اشتهر أمره خشيت الحكومات الاستعمارية أمره وحسبت له ألف حساب، ولم تخف جمال الدين دولة وتضطهده مثل ما خافته واضطهدته الدولة البريطانية، فسجنته في الهند مرة ثم أطلقت سراحه.. وبعد أن تكلم لوثروب عن دعوته قال: هذه دعوة جمال الدين التي أفنى حياته في سبيل نشرها بالبلاغة الساحرة، والحجج الدامغة فكانت كالغيث الجون أصاب التربة الجرداء، ولا عجب أن يكون جمال الدين الرجل الموقظ الكبير وتكون كل نسمة نفختها في المسلمين عاصفة زعزعاً. |
وأبان مستر "بلانت" عن نبوغه، فقال: |
"أما نبوغ جمال الدين ففي اجتهاده في حمل الممالك التي جال فيها على أن تعيد النظر في الموقف الإسلامي كله، وأن تستبدل بالتمسك بالقديم التحرك إلى الأمام بحركات أدبية منسجمة مع العلم العصري، وقد مكنه علمه بالكتاب والسنة من إقامة الحجة على أنهما لو أحسن تفسيرهما لكان الإسلام كفؤاً لأحدث تطور راق عظيم. |
* * * |
ثم يقول المؤلف: "ولما أثمرت تعاليمه التي كان يبثها لتطهير العقائد وتحرير الأفكار وتبصير الناس بما لهم من حقوق وما عليهم من واجبات، وعظم نفوذ السيد في البلاد، وأقبلت عليه الوجوه وانصرفت إليه الأذهان، شق ذلك على أعدائه فلم يدعوه يسير في طريقه لينشر دعوته فأرصدوا له الكيد والبغي وثارت عليه الحرب من كل ناحية..". |
إلى أن يقول: "مما لا خلاف فيه أن دعوة جمال الدين الإصلاحية إنما كانت دعوة عامة ليست خاصة بأمة من الأمم، ولا شعب من الشعوب فقد ترك في كل الممالك الشرقية وما اتصل بها من الأمم الأوروبية أثراً.. وبذر في كل أرض بذراً". وقال لوثرب أيضاً: |
"لقد عمت جهود هذا الرجل النابه البلاد الإسلامية كلها والممالك الأوروبية ذات الصلات بها، فأفغانستان وفارس وتركيا ومصر والهند اتصلت به جميعاً وأحست بأثره القوي الذي هزها هزاً عنيفاً". |
وقال الأستاذ "براون" أن استيفاء النظر في تاريخ السيد جمال الدين هو إحاطته بتاريخ المسألة الشرقية كلها في الأزمان الحديثة يدخل في ذلك تاريخ الأفغان والهند، ويدخل فيها بوجه خاص تاريخ تركيا ومصر وإيران.. ومن هذه البلاد الإسلامية الأخيرة لا يزال تأثيره حياً. |
عرف من تاريخ السيد جمال الدين أنه في سياحاته إلى أوروبا قضى في باريس بضع سنين وأنه قام وهو في هذه المدينة بعملين جليلين -غير ما كان ينشره في الصحف من أحاديث- بقي أثرهما ظاهراً على وجه الدهر. |
أحدهما: مقابلته للفيلسوف الكبير "أرنست رينان" ومساجلته إياه، وتعريفه بحقيقة الدين الإسلامي وأنه دين ينصف العلم ويمقت الجمود، لا كما يفهمه كثير من علماء أوروبا -وكان رينان منهم- من أنه عدو العلم، وحليف الجمود. |
وثانيهما: إنشاء صحيفة "العروة الوثقى". |
وقد أنشئت هذه الجريدة بباريس وصدر العدد الأول منها في جمادى الأولى سنة 1301هـ الموافق 13 مارس سنة 1884م. |
وكان مدير سياستها السيد جمال الدين ورئيس تحريرها الأستاذ الإمام محمد عبده رحمهما الله وقد صدر منها ثمانية عشر عدداً في ثمانية أشهر. |
وكان آخر عدد صدر منها في 26 ذي الحجة سنة 1301هـ/17 أكتوبر سنة 1884م. |
تكلم "تشارلز أدمس" عن الغاية التي كان يرمي إليها جمال الدين فقال: |
"لقد كانت الغاية التي يرمي إليها جمال الدين والغرض الأول في جميع جهوده التي لا تعرف الكلل: توحيد كلمة الإسلام وجمع شمل المسلمين في سائر أقطار العالم كما كانت الحال في أيام الإسلام المجيدة، وعصره الذهبي.. وقد آلمه أشد الألم أن يرى الأمم الإسلامية يضعف أمرها وكان يعتقد أن الأمم الإسلامية لو نفضت عن نفسها كابوس الاحتلال الأجنبي وتحررت من تدخل الدول الأجنبية في شؤونها لأصبح المسلمون قادرين على تدبير أمورهم تدبيراً حسناً دون أن يعتمدوا على الأمم الأجنبية ويصطنعوا وسائلها.. وكان يعتقد أن الإسلام في جميع مسائله الجوهرية دين عام للعالم أجمع قادر بما فيه من قوة روحية على ملاءمة الظروف المتغيرة في كل جيل..". |
ويتحدث عنه المؤرخ الكبير "عبد الرحمن الرافعي" فيقول: "إن الأمم الشرقية جمعاء مدينة بنهضتها السياسية والفكرية إلى الزعيم الكبير السيد جمال الدين الأفغاني". |
ظل الشرق قروناً عديدة رازحاً تحت نير الجمود الفكري والتأخر العلمي، والاستعباد السياسي، وبقي في سبات عميق إلى أن قيض الله له الحكيم الأفغاني "جمال الدين" ففتح فيه روح اليقظة والحياة، وأهاب بالنفوس أن تنهض وتتحرك، وبالعقول أن تستيقظ، وبالأمم والجماعات أن تتطلع إلى الحرية فكانت رسالته إلى الشرق مبعث نهضته الحديثة.. وإذا أردنا أن نتبين في كلمة عامة فضل جمال الدين.. فلنذكر أنه كان في حياته "مصلحاً دينياً" و "فيلسوفاً حكيماً" و "زعيماً سياسياً" فجمع بين الزعامات الروحية والفكرية والسياسية واضطلع بها معاً. |
فأدى من الناحية الدينية مهمة الإصلاح والتجديد، وأهاب بالأمم الإسلامية أن تفهم الإسلام على حقيقته، وترجع إلى مبادئه الصحيحة.. وفطرته الأولى، وتطهره من الأوهام والخرافات التي أفضت إلى تأخر المسلمين. ومن الناحية الفكرية، عمل على إنارة البصائر.. وتوجيه الأفكار إلى البحث عن الحقائق وتحرير العقول.. |
ومن الوجهة السياسية: استنهض الهمم، واستثار في النفوس روح العزة والكرامة وغرس بذور الحركات الوطنية في مختلف بلاد المشرق، وقام بمثل العمل الذي اضطلع به زعماء النهضات السياسية في الغرب، كواشنطن وغاريبالدي ومازيني وغيرهم. |
* * * |
من أقوال جمال الدين: |
في فصل بعنوان "الاعتدال في أصول الأخلاق والفضائل إنما يكون بالدين" يقول: "يرشدنا رائدنا الحق إلى أن الاعتدال في أصول الأخلاق، والتحلي بحلية الفضائل وترويض القوى والآلات البدنية على العمل بآثارها، إنما يكون "بالدين"، ولن يتم أثر الدين في نفوس الآخذين به، فيصيبوا حظاً وافراً مما يرشد إليه، فيتمتعوا بحياة طيبة، وعيشة مرضية، إلاّ إذا قام رؤساء الدين وحملته وحفظته بأداء وظائفهم من تبيين أوامره ونواهيه وتثبيتها في العقول.. ودعوة الناس إلى العمل بها وتنبيه الغافلين عن رعايتها، وتذكير الساهين عن هديها. |
أما إذا أهمل خدمة العلم وظائفهم، أو تهاونوا في تأدية أعمالهم، ضعف اليقين في النفوس، وذهلت العقول عن مقتضيات العقائد الدينية وأظلمت البصائر بالغفلة، وتحكمت الشهوات البهيمية، وتسلطت الحاجات المعيشية، ومال ميزان الاختيار مع الهوى.. فحشدت إلى الأنفس أوقاد الرذائل فيحق على الناس كلمة العذاب، ويحل بهم الشقاء". |
ويقول في فصل آخر: "المسلمون بحكم شريعتهم ونصوصها الصريحة مطالبون عند الله بالمحافظة على ما يدخل في ملكهم وولايتهم -من البلدان- وكلهم مأمور بذلك، لا فرق بين قريبهم وبعيدهم، ولا بين المتحدين في الجنس ولا المختلفين فيه.. وهو فرض عين على كل واحد منهم إن لم يقم قوم بالحماية عن حوزتهم -كان على الجميع أعظم الآثام.. ومن فروضهم في سبيل الحماية، وحفظ الولاية، بذل الأموال والأرواح، وركوب كل صعب واقتحام كل خطب.. ولا يباح لهم المسالمة مع من يغالبهم، في حال من الأحوال".. وسأله مرة من حوله عن معنى التمدن، أو العالم المتمدن، وأشاروا إلى بعض أمم الغرب بوصفهم أنهم هم المتمدنون بأفرادهم ومجموعهم فأجاب: "لا يقدّر الفرد ولا تقدر الأمة، ولا تقدر الأشياء، ولا تقدر المكتسبات العلمية إلاّ بنسبة ما يترتب على ذلك من الفائدة. |
فلنأخذ من ذكرتم من الأمم المتمدنة، ومكتسباتهم العلمية وما صنعوه وعملوه وكسبوه وربحوه وما ترتب على ذلك، وما حصل من المنافع والفوائد للبشر من وراء تلك المكتسبات والمدنية والثروة، ثم نعدد ما رأينا؟ هل رأينا غير مدن كبيرة وأبنية شامخة.. وقصور مزخرفة ومعامل ومصانع ومعادن ومناجم، واحتكار تجارات.. أتت لهم بكنوز وثروات؟ |
ثم هل غير التفنن في اختراع المدافع المروعة والمدمرات والقذائف وباقي المخربات القاتلات للإنسان التي تتبارى تلك الأمم الراقية فيها؟ |
لو جمعنا كل ما في ذلك من المكتسبات العلمية، وما في مدنية تلك الأمم من خير ووضعناه في كفة ميزان.. ووضعنا في الأخرى الحروب وويلاتها.. لا شك أن كفة "المكتسبات العلمية والمدنية والشرف" هي التي تنحط وتغور.. وكفة الحروب وويلاتها هي التي تعلو وتفوز.. |
فالرقي والعلم والتمدن على ذلك النحو وفي تلك النتيجة إن هو إلا جهل محض.. وهمجية صرفة.. وغاية التوحش..". |
ثم قال: "وعندي أن الإنسان اليوم هو أحط درجة من إنسان الجاهلية لأنه ربما يكون للإنسان في دوره الأول، في حروبه الوحشية وعوامل الجاهلية، معذرة في طلب الحاجات للحياة: بسهم وقوس، وسيف، وسمهري.. |
* * * |
ولنستمع -أخيراً- في ختام هذا العرض، إلى رأي السيد جمال الدين في المرأة وتنديده بالذين بدأوا -في عهده- بترديد دعوة مساواتها بالرجل في كل شيء تقليداً للغرب.. قال السيد جمال الدين: |
"ليس من يحط من قدر المرأة، ويمتهن خلقها، ويدهورها لدركات الابتذال، إلاّ ذلك الذي يغريها على ترك مملكتها وبيتها، وأن تزاحم الرجل في شقائه بجلب العيش، الذي لو فرضنا أنها أفادت بعض الفائدة المادية فيه وعاونت به، لا شك أن الخسارة تكون من وراء تركها المنزل وتدبيره، والطفل وتربيته، أعظم بكثير من تلك المنفعة التي لا تبقي على الأخلاق، ولا تفسد إلاّ الأنساب والأعراق..". |
|