شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
داهية العرب
أبو جعفر المنصور
مؤسس دولة بني العباس للدكتور عبد الجبار الجومرد
يصفه بحق مؤلف سيرته الضخمة هذه، الدكتور الفاضل عبد الجبار الجومرد بأنه: داهية العرب، ومؤسس دولة بني العباس.. والواقع أن أبا جعفر المنصور هو المؤسس الفعلي للدولة العباسية.. ولئن كان أخوه السفاح -ابن الحارثية- هو أول خليفة عباسي في عرف التاريخ، فالمنصور -دون مراء- هو الذي أرسى دعائم هذه الدولة وأوجد فيها النظام، وحد من نفوذ الشعوبية واستأصل جذور الفوضى وأزال بحزمه ودهائه ومضاء عزيمته وبعبقريته السياسية، كل عناصر الفتنة والاضطراب مما كان يثيره الشعوبيون وغيرهم من خصوم الدولة العباسية.
والمنصور في هذا يشبه -تماماً- عبد الملك بن مروان في الخلفاء الأمويين.. ويشبهه في أن كلاً منهما "مؤسس دولة" من طراز ممتاز.. ويشبهه في الكثير من المزايا وفي الكثير من المؤهلات! ولعلّ ما اتصف به كل منهما من غزارة العلم وعمق الثقافة الأدبية، إلى جانب الدهاء والعقل مع الشجاعة والخلق الكريم، يضاف إلى ذلك الطموح الواسع لدى كل منهما إلى ما عرف عنهما من فراسة وخبرة تامة بالرجال.. كل هذه المواهب والخلال والصفات يكاد الرجلان العملاقان -الأموي والعباسي- يتفقان فيها تمام الاتفاق، ولقد كانت الدولة التي أعاد لها عظمتها ورونقها "عبد الملك" مبعث حضارة ونهضة ومجد وعمران وتقدم إلى أبعد مدى في أكثر من مجال..! وكذلك كانت الدولة التي أنشأها المنصور..
والدكتور الجومرد، العلامة المؤرخ العراقي المعروف، هو أول باحث -في ما نعرف- يترجم لداهية العرب مؤسس دولة بني العباس، بتوسع وإفاضة وشمول! وقد اشتمل كتابه هذا على ستة فصول تحدث فيها في سرد مرتب وتحليل دقيق عن أبي جعفر وأسرته ومولده ونشأته، والأحداث التي واجهها عند قيام الدولة العباسية، ثم عن خلافته وعمله في توطيد أركان دولته في الأعوام الأولى وعن شخصيته، والطابع العربي لدولة المنصور.. ويتناول في آخر فصول الكتاب أنظمة الدولة وحضارتها في خلافته ثم يتحدث في كلمة ختامية عن أيامه الأخيرة.. وسنعرض لبعض هذه الفصول من كتاب الدكتور الجومرد.
* * *
كان مولده في قرية "الحميمة" في شهر صفر من عام 95هـ وهو عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس.. تكنى في شبابه بأبي جعفر، ولقب في خلافته بالمنصور فعرف من ذلك اليوم بأبي جعفر المنصور، واشتهر به في عالم التاريخ.
ولم نعثر على مصدر يخبرنا بالدقة، كيف ربي هذا الطفل في أعوامه العشرة الأولى إلاّ قياساً على أقرانه من أبناء الأسر العريقة عند العرب، ويستنتج من أخباره في ما بعد أنه نشأ صحيح البنية، ونشيطاً في حركاته، قوي العصب، حاد الذكاء، سريع الفهم للدرس واستيعاب المعاني، ذلق اللسان قوي الحافظة، ميالاً إلى الجد في طلب الفائدة العلمية، مرهف الحس، فيه أناة وصبر.. مع دعابة خفيفة، تألفه العين ويسترعي بجمال صوته وحلو حديثه الأسماع، ويفرض على معارفه وذويه حبه وتقديره.
اندفع في طلب العلم وتوسع في دراسة اللغة والنحو واتسع في علم التاريخ، وباشر في أخذ الفقه وكتابة الحديث وأحاط بما وقع في يده من أقوال العرب وحكمهم وحفظ المهم من خطبهم البليغة، واستظهر الكثير من أشعارهم وأراجيزهم، وفهم معانيها واستوعب غريبها، حتى قويت ملكته، وصقلت سليقته فنظم الشعر، وعذب بيانه فأجاد الخطابة وارتجلها، وبلغ شأواً بعيداً في ثقافته اللسانية، ثم انصرف إلى الفقه والتشريع وجمع الحديث ورواه عن جده علي بن عبد الله بن العباس كما تتبع علوم الفلك والنجوم فكان له نصيب فيها، وما زال يدرس ويبحث عن الدرس حتى بلغ سن الكمال، وقيل إنه واظب على طلب الفائدة العلمية حتى شغلته السياسة بأحداثها.
وبجانب نشاطه العلمي في هذه المرحلة من حياته تلقى فنون الحرب والفروسية.. لقد تربى تربية عسكرية صارمة كمن كان يعد لأمر خطير شأنه في ذلك شأن أبناء الأسر المرموقة في المجتمع العربي.. ولا ننسى هنا ما للبيئة والظروف المحيطة بالناشئ من أثر في تكوين أخلاقه وتوجيه تصرفاته في مستقبله.. وقد ورث أبو جعفر مزيجاً من أخلاق أمه وأبيه وهما من عنصرين مختلفين، وعاش في بيئة يغمرها الكثير من التناقض؛ فالأم جارية متواضعة النسب، ولم تكن حرة كأمهات بعض إخوته من هاشمية وحارثية من بني عبد المدان.. والأب سيد من سادات قريش، وزعيم أسرة قريبة من مهبط الوحي ومنبع الرسالة، فكان وضع أمه يشعره بشيء من النقص بين إخوته وأقرانه، فيحاول أن يسد ذلك النقص بما أوتي من همة وذكاء وعلم أو باندفاع غريب نحو المغامرات الجريئة.. وكان وضع والده يبعث في نفسه الأمل والنشوة والاعتداد بالنفس.. ولم تكن الظروف التي أحاطت به وعصفت بجانبه أحداثها أقل تناقضاً واختلافاً من أصل منبته.
كل هذه المتناقضات وغيرها كانت تطوف في مخيلة أبي جعفر في صباه ونشأته، فيفهم بعضها ويعجز عن فهم البعض الآخر.. ثم يسير في طريقه، وقد علق في نفسه منها ما علق حتى إذا كبر وشب عن الطوق لم يسلم من آثارها في نفسه، ولم يستطع أن يخفيها في بعض تصرفاته؛ فتراه قاسياً في ناحية رحيماً في الأخرى.. سريع الغضب.. شديد البطش إذا استثير أو غمزت قناته.. سريع الرضى داني العفو إذا استرضى وارتاحت نفسه.. بخيلاً إلى حد الدانق في بعض الأمور، كريماً جواداً في بعضها الآخر.. هذا مع عقل ثابت، ودهاء فطري، وعلم غزير، وحزم بالغ مداه، وصفات أخرى نتحدث عنها في موضعها..
كان أبو جعفر سياسياً بعيد النظر من الطراز الرفيع.. كان على العكس من أخيه إبراهيم الإمام، وعندما قامت الثورة العباسية ضد الحكم الأموي، كان من رأي أبي جعفر إلا توسم ثورة العباسيين بالظلم والشعوبية، فيكون أثرها سيئاً على الحركة عندما تخرج من نطاق خراسان الضيق، إلى حيز البلاد العربية الواسع.. ولكن ماذا يستطيع أن يفعل من ليس في يده أمر ولا يطاع له رأي، وقد انطلقت الثورة على سجيتها، وراح أبو مسلم يأخذ المسيء والبريء بالظن والتهمة ويقتل بالمفرد والجملة.
* * *
وقد خص المؤلف الفاضل الفصل الأول من كتابه بالحديث عن أسرة المنصور ومولده ونشأته، وتناول في الفصل الثاني الأحداث في فجر الدولة العباسية بصورة شاملة وما كان من دور لأبي جعفر بالنسبة لكل حدث.. وفي الفصل الثالث يحدثنا عن خلافة أبي جعفر وعمله في توطيد أركان الدولة في الأعوام الأولى من توليه للخلافة، كما يتحدث في الفصل الرابع عن شخصية أبي جعفر وفي الفصل الخامس عن "الطابع العربي لدولة أبي جعفر المنصور".
ويفيض المؤلف في حديثه عن خلافة المنصور في الفصل الثالث فيتحدث أولاً عن "البداية الصعبة" التي واجهت أبا جعفر المنصور عندما تولى خلافة بني العباس عام 137هـ فهناك -يقول المؤلف-:
"في ديار الجزيرة والشام ثورة عمه عبد الله بن علي وقد وردته أخبارها جملة وتفصيلاً، فأقلقته إلى حد بعيد، وفي الحجاز حركة سرية علوية تدعو إلى "محمد النفس الزكية" بن عبد الله بن الحسن، وقد سمع أبو جعفر في مكة الشيء الكثير عنها، فقيل له إن دعاتها يعملون لها في مكة والمدينة والبصرة والأهواز وفارس حتى في إقليم خراسان ذاته، ووردته أنباء أخرى بأن الخوارج بدأوا يتحركون في نواحي الموصل وديار ربيعة مستغلين فرصة الانشقاق على الخلافة فهم يتربصون بالدولة الدوائر.. وهذا أبو مسلم الخراساني عقدة العقد بايع مع الناس، وربما كانت بيعته مراوغة منه، ريثما يبلغ مأمنه في خراسان ليفلت كما يفلت الوحش من شباك صائده، فيتوغل في مجاهل غابة.. ثم يستعرض أبو جعفر ما لديه من الوسائل والقوى التي يمكن أن يتخذها سنداً يدرأ به عوادي هذه الأخطار فلم يجد بين يديه ما يطمئنه ويريحه؛ فخزينة الدولة تكاد تكون فارغة، أو هي فارغة حقاً بسبب إهمال الخليفة السفاح وعدم اهتمامه بجمع المال وادخاره للأزمات الطارئة.. فضلاً عما كان عليه من كرم وتبذير، وبذل في الصرف والعطاء.. أما الجيوش والسلاح، فقد ذهب عبد الله بن علي بجانب منها فضمه تحت راية ثورته والذي بقي يسيطر أبو مسلم عليه في ولايته، عدا مجموعات صغيرة مبعثرة في المدن والأقاليم الأخرى وهي من القلة بحيث لو اجتمعت لما استطاعت الصمود أمام أحد الخصمين: عبد الله، أو أبي مسلم.. فكيف إذا اتفقا غداً على الغدر معاً؟!
ويفكر أبو جعفر ملياً في من يعتمد عليه من رجال الدولة ويستشيره، فإذا بهؤلاء الرجال الذين كانوا بالأمس يملأون بلاط الخليفة السفاح، ويحيطون به إحاطة السوار بالمعصم أكثرهم لا يركن إليه، وفيهم الفارسي المتعصب لقوميته مثل "خالد بن برمك" وهو من ذوي الرأي، ولكنه يرتبط بأبي مسلم بحبل قديم من الصداقة والود والتفاهم، ولم يرتبط بشخص أبي جعفر في شيء من هذا، وقل كذلك عن الآخرين من رجالات القصر، إلاّ حفنة من القادة العرب ونفر قليل ممن كانوا يعملون بجانب أبي جعفر قبل خلافته..
كل هذه الحقائق والاحتمالات السيئة كانت تدور في خلده فتقلقه وتمر أطيافها الثقيلة على أجفانه فتمسح عنها لذيذ النوم ولكنها لم تستطع أن تدفع به إلى اليأس والتخاذل، إذ كان يشد نفسه بها إلى جانب الحزم والتدبير حتى ليصح القول فيه بأن ليلته تلك -عندما قدم من مكة إلى الكوفة غرة محرم 137 وبويع له فيها بالخلافة- كانت أشبه بليلة الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان" حين آلت إليه الخلافة، وكل أقطار الدولة منتفضة ثائرة -كما هو معروف في التاريخ- وكان أبو جعفر في واقعه من ذلك الطراز من الرجال الذين تزيدهم المخاطر عزيمة ومضاء..
* * *
ماذا يصنع أبو جعفر -إذن- أمام هذه البداية الصعبة والصعبة جداً؟ ومن أين يبدأ؟ وكيف يبدأ؟
كان أول عمل بارع قام به المنصور ودل على عبقريته حقاً، وعلى دهاء ومكر لا بد منهما لمؤسس دولة، هو مواجهة عمه الثائر عليه "عبد الله بن علي" ليتخلص منه أولاً بالقضاء على ثورته التي قام بها في الشام يومذاك.. أما أبو مسلم، فلا بأس من إرجاء أمره إلى حين يتم القضاء على ثورة عبد الله بن علي بواسطة أبي مسلم نفسه -خصمه الجبار- وفعلاً كان للمنصور ما أراد عندما تم له القضاء على تلك الثورة وانتهى المطاف بعمه عبد الله إلى اللجوء إلى البصرة بحاشيته وقواده ومواليه حيث كان أخوه سليمان بن علي عاملها من قبل المنصور.. ويجيء دور أبي مسلم إلى أن يلقى مصرعه على يد أبي جعفر في خبر طويل أفاض فيه المؤلف ووصفه بأنه "كان عملاً جريئاً إلى أقصى حدود الجرأة.. ومجازفة ما بعدها مجازفة.. ذلك أنه -أي المنصور- حين غادر الهاشمية ونزل المدائن لم يصحب معه غير حاشيته وعدد جد قليل من الحرس الخاص به، وكأنه ذاهب إلى نزهة قصيرة.. والظاهر أنه لم يكن قد فكر بعد بقتل أبي مسلم.. فلما عزم على ذلك لم يرهبه أن يكون أعزل من الجند، في حين كان عدوه محاطاً بثلاثة آلاف من خيرة رجاله في القتال من أخلصهم له وأحبهم إليه، من بينهم فرقة كاملة تدعى الراوندية من مجوس فارس وتعتقد بأن روح الله حلت في جسده وأن الدين كل الدين في طاعته، وقد نزل هذا الجيش بكامل سلاحه في الربض القريب من مقر الخليفة وهو على تلك الحالة".
* * *
انتهى إذن أبو مسلم.. وفي الحق لقد لقي هذا الرجل جزاءه العادل على يد أبي جعفر بعد أن أسال الدماء أنهاراً.. وكان من أمره ما كان في عهد السفاح الخليفة العباسي الأول مما هو ذائع ومعروف!
وفيما كان أبو جعفر -يقول المؤلف- يتأهب للعودة إلى مقره في الأنبار، وردته أخبار خراسان تشير إلى ثورة تضطرم هناك بزعامة رجل يدعى "سنباذ"، وكان مجوسياً من أركان حزب أبي مسلم وصنائعه علم بمقتل سيده في المدائن فجمع فلول العائدين من جيشه واستولى على خزائنه التي كان أودعها في "الري" حين أراد الحج وكانت شيئاً كثيراً من الجواهر والسلاح، ثم نادى بطلب الانتقام والأخذ بثأر أبي مسلم من قتلته وجمع أتباعه من أهل الجبال وتوافدت إليه من أنحاء البلاد جماهير غفيرة من المجوس والزنادقة والشعوبية.. ورفع راية الثورة واكتسح نيسابور، والري، وقومس وقتل كل من وقع في يده من العرب، وسبى النساء العربيات، ونهب الأموال، وعاث في الأرض فساداً فزادت قواه على مائة ألف مقاتل، وجاهر أخيراً بأنه يريد القضاء على دولة بني العباس والزحف على مكة، وهدم الكعبة قبلة المسلمين.. فأرسل إليه أبو جعفر جيشاً عربياً قوامه عشرة آلاف فارس.. واستمات الجيش العربي أمام تلك الجموع الزاخرة من خيل المجوس والشعوبية، حتى بعثروا صفوفها وهزموها شر هزيمة، وأوقعوا السيوف في رقاب جندها وقتلوهم كيف شاؤوا وبلغ عدد القتلى فيهم نحواً من ستين ألفاً عدا الأسرى.. وهرب "سنباذ" فلحقته مفرزة من خيل العرب حتى أدركته فقتلته.. وكان بين خروج سنباذ وقتله سبعون ليلة، كما كان بين خروج عبد الله بن علي وهزيمته، ومقتل أبي مسلم ثمانية أشهر..
بهذه الجرأة النادرة، وبتلك السرعة، في غضون بضعة أشهر هزم أبو جعفر عمه الثائر عليه.. وقضى بقتل أبي مسلم على أكبر عدو كان يهدد شخصه، ويستهدف تمزيق رقعة دولته وبدد شمل أنصاره وصنائعه تحت راية مجوسية حملها "سنباذ" فارتاحت خراسان من تلك الدوامة العارمة المضطربة، وأذعنت إلى حكمه.. وعاد إلى الأنبار، يتحفز لتصفية مشاكل أخرى كانت تنتظره وهو يردد:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تترددا
ولا تمهل الأعداء يوماً بقدرة
وبادرهمو أن يملكوا مثلها غدا
* * *
ومن طريف ما يروى عند عودته أنه سمع بأن صاحب بيت أمواله "الفرج بن فضالة التنوخي" وكان شيخاً عاقلاً انتقد الطريقة التي قتل فيها أبو جعفر عدوه أبا مسلم.. فأمر بإحضاره وقال له: "إني أعلم أنك صاحب رأي.. وقد خدمت بني أمية زمناً.. فكيف تخطئني بقتل أبي مسلم في قصري ولم تخطئ صاحبك عبد الملك بن مروان في قتل "عمرو ابن سعيد الأشدق الأموي" ومعالجته إياه في قصره كما فعلت أنا؟".
فقال الفرج: "يا أمير المؤمنين إن عبد الملك كان محاطاً باثني عشر ألفاً من جنده ومواليه حين قتل خصمه.. وقتلت أنت أبا مسلم، وأنت في خرق من الأرض، وكل من حولك له ومنه وإليه.. قال صدقت، ولم أخطئ في عملي!".
وانصرم العام الأول من خلافة أبي جعفر المنصور وكان مليئاً بالأحداث الخطيرة.. واستهل العام الثاني 138هـ/756م وما زالت بعض المشاكل قائمة هنا وهناك، كان أخطرها قيام الخوارج في أرض الجزيرة بزعامة "ملبد بن حرملة الشيباني".. وانتهت حركتهم هذه بقتل زعيمهم "ملبد بن حرملة" في ثمانمائة رجل من أصحابه وهروب الباقين.
ولم يكد ينتهي أبو جعفر من أمر هذه الحركة حتى يفاجأ بحركة "جمهور بن مرار العجلي" في خراسان.. يقول المؤلف: "فأرسل إليه أبو جعفر جيشاً بقيادة "محمد بن الأشعث" والتقى القائدان قرب أصبهان فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ومع جمهور نخبة فرسان العجم، فهزمهم ابن الأشعث وقتل عدداً كبيراً منهم وهرب جمهور إلى أذربيجان، فقتل هناك وحمل رأسه إلى المنصور.. ولم يشأ الروم، وهم أعداء الدولة الإسلامية منذ عهد بعيد، أن يتركوا الفرصة تمر في حين كان المنصور يوطد أركان دولته ويخمد الفتن والثورات المتعاقبة، فهاجموا حدوده الشرقية الشمالية وتوغلوا داخل البلاد فقتلوا وسبوا خلقاً كثيراً، فأوعز أبو جعفر إلى كل من عمه صالح بن علي وأخيه العباس بن محمد أن يزحفا بجيش من عرب الشام لتلافي ما أحدث الروم من تخريب في البلاد، فزحفا من مقريهما وعمرا ما خرب العدو في "ملاطية" وغيرها، ثم توجها لقتال الروم في بلادهم فتوغلا في أراضيهم".
ويتابع المؤلف حديثه عن بقية ما ظل يواجه المنصور من المشاكل والفتن، وليس من شك في أنه يأتي في طليعة هذه المشاكل والفتن حركة الرواندية المجوسية في سنة 141، وثورة العلويين بقيادة محمد النفس الزكية في سنة 145هـ، وقد كان الظفر حليف المنصور في كل من هاتين الحركتين.. شيء آخر حاول أن يحققه المنصور -ولعلّه الشيء الوحيد الذي أخفق فيه- ذلك هو أن يستولي على الأندلس.. حيث أقام هناك دولة أموية عبد الرحمن بن معاوية بن هشام..! لكن محاولة المنصور أن يستولي على الأندلس باءت بكل فشل أمام عزيمة فتى بني أمية عبد الرحمن الداخل.. يقول المؤلف: "وأسف -أي المنصور- على ما حدث، ثم جلس مجلسه، وسأل عن هذا الفتى الأموي الذي سمع به ولا يعرفه، فحدثوه عنه، فأعجبته جرأته وبطولاته، وتحمله المشاق وبلوغه الغاية، وهو في حداثة الشباب، وقلة التجربة، فنسي المنصور عداوته، وما صنع هذا الفتى بجيشه.. وقال فيه كلمته المشهورة: "إنه والله صقر قريش"، فعلق هذا اللقب باسم عبد الرحمن الداخل، كوسام من أكبر أعدائه، وأعظم خليفة في تاريخ بني العباس".
* * *
ثم ينتقل المؤلف إلى الحديث عن عمل آخر يعتبر من أعمال المنصور الخالدة وهو إنشاؤه لمدينة بغداد.
أما الفصل الرابع وهو الفصل الذي يحدثنا فيه عن شخصية المنصور فيقول فيه: "أخبار أبي جعفر كثيرة في بطون كتب السير والتراجم وأسفار التاريخ ومراجع الأدب، ولكنها مبعثرة غير منسقة حسب ظروفها وأوقاتها ومناسباتها فكان طبيعياً أن تظهر متناقضة أحياناً مع بعضها وفي هذا مجال واسع يدخل منه الخصوم للطعن، كما يستفيد منه المؤيدون للدفاع وخصومه بسبب تاريخه السياسي كثيرون.. قتل أبا مسلم الخراساني فخاصمه أنصاره من متعصبي الفرس الشعوبيين.. وقاتله العلويون فقتلهم، فأعلن شيعتهم عليه حرب الأقلام.. وضرب الخوارج، فنقموا عليه، وقالوا فيه ما قالوا، وبخل على شعراء فهجوه، وجاد على بعضهم فحمدوه، وذهب الرواة يجمعون هذا وذاك، وأخذ التاريخ يدوّن ما جمعوا، من أخضر مزهر، وحطب يابس.. ومع ذلك كله فقد أجمعت المصادر على أكثر مزاياه، واختلفت في أمر واحد، هو سياسته مع خصومه وبطشه الشديد بهم، وكثرة من قتل منهم، وهذا صحيح بسبب الوضع السياسي الدقيق، والمراحل الخطيرة التي اجتازها.
وبعد.. فقد كان أبو جعفر داهية، حازماً وعاقلاً، عالماً ومؤسس دولة من الطراز الأول.. يعرف ما يصنع، ويهتم بصغائر الأمور اهتمامه بكبائرها.. وينظر إلى أبعد مما هو فيه، ولا يترك أمراً حان موعده ليفرغ من أمر استعصى عليه، ولا يملأ الهم صدره من حادث قبل وقوعه.. ولا يضيق به ذرعاً إذا وقع رابط الجأش، يقابل الأحداث بعزيمة ليس فيها خور، ولا تخاذل، فإذا عزم توكل وأقدم مهما كانت الوسيلة وكيفما جاءت النتيجة..
يقول صاحب الفخري عنه: كان من عظماء الملوك وحزمائهم، وعقلائهم وعلمائهم، وذوي الآراء الصائبة منهم والتدبيرات السديدة..
ويرى المسعودي أنه كان من الحزم وصواب الرأي وحسن السياسة على ما تجاوز كل وصف. ووصفه ابن شاكر.. قال: كان فحل بني العباس، ومن أفراد الدهر حزماً ودهاء وجبروتاً.. وكان شجاعاً مهيباً كامل العقل، تاركاً للهو واللعب وكان فيه عدل، وله حظ من صلاة وعلم وفقه.
قال عنه الوزير الربيع بن يونس:
"كان للمنصور حمى من العقل، لا يسيطر به الجهل، ويرى باطن الأمر، من الرأي، كما يرى ظاهره".
وقال يزيد بن هبيرة:
"ما رأيت رجلاً قط في حرب ولا سمعت في سلم أمكر ولا أبرع ولا أشد تيقظاً من المنصور".
وقال القائد عثمان بن عمارة:
"إن حشو ثياب هذا العباسي شجاعة ومكر ودهاء".
ووصفه المؤرخ أبو جعفر الطبري، فقال: "كان أديباً، وخطيباً مُفوَّهاً، وفي مقدمة من يتكلم، فيبلغ حاجته على البديهة".
وقال السيوطي عن أبي جعفر المنصور:
"كان شاعراً وشعره قليل"..
القسم الثاني:
وفي هذا الفصل.. نمضي مع فصول أخرى من هذا الكتاب الشامل عن المؤسس الحقيقي للدولة العباسية.
نمضي مع هذه الفصول لنرى كيف تميز عهد المنصور -منذ أصبح خليفة للمسلمين- بتحديه ذلك التحدي الكبير للشعوبية والشعوبيين!
ونمضي مع هذه الفصول لنرى من جانب آخر كيف كان عهد المنصور عهد قوة وازدهار بحق.. بل وكيف كان هذا العهد أيضاً الوحيد -في العصر العباسي كله- في ما استوى له من مجد، وقام له من عظمة، وأتيح له من سموق!
نعم.. لقد كان عهد أبي جعفر وحيداً في ما بلغه من قوة وعظمة وازدهار بين كل ما مر بالدولة العباسية من عهود عاشتها هذه الدولة 500 عام، وهي أطول مدة عاشتها دولة إسلامية!
والحق أن أبا جعفر المنصور يعتبر -بلا شك- من الخلفاء العمالقة القلائل في تاريخ الإسلام والمسلمين..
يقول الدكتور جومرد:
رأينا كيف انكمش الجانب العربي وذبلت سيادته على أثر انهيار الحكم الأموي تحت إعصار الثورة العباسية الجامح وقامت الشعوبية الحاقدة تعبث بسيوفها في كل مكان.. رأينا كل هذا وعرفنا أسبابه فلما تناول أبو جعفر مقاليد الأمر قطع رأس الأفعى بقتل أبي مسلم، وداس صلالها في خراسان بالقضاء على ثورة "سنباذ"، ورتق فتوق الدولة، وجمع شملها، ووحد كلمتها، وبنى أسسها، ووطد أركان دعائمها، وقبض على أزمتها بيد صارمة.. وأخذ يوجهها بجدارة وحزم نحو طريقها السليم. وقف أبو جعفر المنصور في الليلة الأولى من خلافته أمام دولة مهلهلة الجوانب، كان طابعها الإسلام شكلاً.. ولكنها على مرجل يغلي.. من أحقاد عنصرية، وثارات قبلية، وطماح جامح إلى الخلافة، ونزعات إلى الاستقلال، وتهالك على الرئاسات واستضعاف لسيادة الحكم، وتجرؤ عليه، فقضى على ثورة عمه عبد الله بن علي.. وكان لا بد من ذلك رغم القرابة.. وانقض على أبي مسلم الخراساني، وبدد شمل تلك الشعوبية الدامية التي كانت تستمد قوتها من روحه، وأطفأ ثورة العلويين التي أوقفته أمام طريقين: إما له أو عليه.. فأرادها له..
وكان أبو جعفر في قرارة نفسه وبحكم نشأته، ومستوى ثقافته، عربي النزعة، متين التمسك بها أكثر من أي عباسي آخر تقلد مسؤولية من مسؤوليات الدولة.. فهو مثلاً لم يشترك في حملة الإبادة على المسالمين من الأمويين بعد انهيار صرح حكمهم، ولم نسمع عنه أنه قتل أموياً لإرواء حقد في نفسه، كما فعل أخوه السفاح في قصره.. أو كما فعل بعض أعمامه في الشام وفلسطين، والبصرة، والحجاز.
وليس من الحق أن نتهمه بقتل يزيد بن هبيرة، ومن معه والغدر بهم، بعد إعطائهم الأمان يوم حصار واسط، لأن المصادر الموثوقة تنص بصراحة على أنه عارض أخاه السفاح في ذلك، ولكنه لم يستطع الصمود أمام إصراره.. ولما تولى الخلافة وقف دون كل محاولة للتنكيل بالعرب، فمنع أبا مسلم من قتل الهاربين من جيش عبد الله بن علي.. وعنف ولي العهد عيسى بن موسى على قتله أحد أبناء نصر بن سيار في الكوفة وكاد يقوده به لولا أن ثبت له أن ذلك كان خطأ، ومن غير عمد، لكن نزعته العربية هذه كانت نزعة سياسي حكيم لم تجمح به إلى التعصب وكره غير العرب، كما جمحت بالخلفاء الأمويين قبله، ولم تجمح به إلى التطرف، فتعميه عن الواقع السياسي في حظيرة الدولة، وقد شاءت الصدف السيئة أن يكون واقع الدولة السياسي في أوائل حكمه أعقد من ذنب الضب.. إذ كان الرأي العام الغالب على المجتمع العربي يكره الحكم العباسي ويتخوف منه، بسبب تلك المجازر الشعوبية، والاختلاطات في عهد الخليفة السفاح.
على ضوء هذا الواقع المضطرب وقف أبو جعفر في بداية أمره يحاول قبل كل شيء توطيد أركان دولته، وتثبيت أقدام عرشه من أن يطوح به ذلك الإعصار العنيف.. فراح يعمل على ضرب الثورات العربية بجند من خراسان، وأخذ يطفئ الفتن والانتفاضات الأعجمية بجيوش من العرب.. حتى إذا استقرت الحال، نوعاً ما، ووضعت السيوف في أغمادها وبنيت بغداد عاصمة الدولة، صار يوجه سياسة مملكته الواسعة على قاعدة من التوازن بين هذه التيارات المتعاكسة، محتفظاً لها بالصبغة العربية، وبسيادة الحكم العربي الممثل في شخصه كأمير للمؤمنين.
* * *
ينتقل المؤلف إلى الفصل السادس، وفيه يتحدث عن أنظمة الدولة، وحضارتها في خلافة المنصور، فيقول:
كان أبو جعفر من أكثر الخلفاء المسلمين حباً للنظام، فقام بتنظيم دولته وبناء حضارتها، وعمل على تركيز قواعد الإدارة فيها، وطرق جباية الأموال ووجوه صرفها، وتوطيد أسس القضاء والعدل، وتنسيق قوى الجيش، وإنعاش الحقل الاقتصادي وتوسيع المجال العمراني، وتغذية الحركة الفكرية ورفع المستوى الاجتماعي.
ويمضي المؤلف في هذا الفصل ويشمل حديثه فيه الإدارة والنظام الحربي، ونظام القضاء، والوضع المالي، والرفاه الاقتصادي، والحضارة الفكرية، والنهضة العمرانية، والحالة الاجتماعية.. في عهد المنصور يقول عن "النظام القضائي": تطور النظام القضائي في العصر العباسي الأول تطوراً كبيراً، ذلك لأن روح الاجتهاد بدأت تضعف بظهور أصحاب المذاهب الكبيرة الأربعة.. وكان قد ظهر في عهد الخليفة المنصور مذهبان، هما مذهب مالك الذي انتشر في الحجاز والشام ثم المغرب، ومذهب أبي حنيفة في العراق، وأخذ القضاة يتأثرون بهذين المذهبين وإن لم يسيروا عليهما إلزاماً في أيام أبي جعفر المنصور.
وقد كان أبو جعفر من أحرص الملوك على تطبيق العدل في دولته، ومن أشدهم اهتماماً في اختيار القضاة العدول للمدن الكبيرة، وكان يبحث في أمرهم قبل تعيينهم، ويستقصي أخبارهم ويعرف نواقصهم.. ويختار أكثرهم بنفسه دون أن يترك ذلك إلى ولاته.. ولم يكن يغضب في سبيل الحكم بالحق، ولم يتذمر منهم إذا جابهوه بصراحة أو لم يلاينوه في كلامهم أو تصرفاتهم أمامه.. وكان هناك تعاون قوي بين الخليفة والأمراء من جهة وبين القضاة من جهة أخرى على القيام بمهمة تطبيق العدل وإحقاق الحق، وكان على القاضي أن يمارس الفقه الإسلامي، ويعرف لدى العامة بالاستقامة، وحسن الأخلاق، ولمركزه أهمية ولشخصه نفوذ كبير لذلك لا يجري عليه ما يجري على العمال، وربما بقي في كثير من الأحيان يشغل منصبه في عهد عدة ولاة.. ولم يكن أسرع من القاضي إلى تقديم استقالته إذا تدخل في أحكامه الشرعية متدخل.. وقصارى القول -يقول المؤلف: إن عهد المنصور امتاز بإعطاء القضاء مكانته اللائقة به.. إذ كان يعتبر الرئيس الأعلى له.. ولم يكن قد ظهر في عهده بعد منصب "قاضي القضاة".
* * *
وقد كان عهد المنصور نقطة بداية نشاط اقتصادي جديد بعد توقف دام زمناً أثناء الاضطرابات في العهد الأموي والثورة العباسية التي أعقبته بفضل همة المنصور، وبعد نظره في النواحي الاقتصادية وتشجيعه للزراعة والتجارة والصناعة وإقرار الأمن. أخذت الدولة تدر عليه بمواردها الضخمة، حتى عمّ الرخاء ورخصت أسعار الحاجيات إلى حد بعيد.. يقول صاحب كتاب "تاريخ بغداد": "سمعت داود بن صعير بن شبيب بن رستم البخاري يقول: رأيت في زمن أبي جعفر المنصور كبشاً بدرهم، وحملاً بأربعة دوانق، والتمر ستين رطلاً بدرهم والزيت ستة عشر رطلاً بدرهم، والسمن ثمانية أرطال بدرهم.. ثم ذكر العسل فقال عشرة أرطال بدرهم"، وهذه صورة مقتضبة عن جهود المنصور في الميدان الاقتصادي.
ويتحدث المؤلف عن اهتمام المنصور بالزراعة.. أما عن الصناعة فيقول: "اشتهرت الصناعة في العصر العباسي الأول وكانت حكومة المنصور تشجعها وتعتبرها أحد المصادر الهامة التي تدر على خزينتها بالضرائب.. وكان الإنتاج الصناعي على أنواع ثلاثة: معدنية وحيوانية ونباتية.. وقد نبغ في الصناعة المعدنية أناس في كل إقليم.. وكذلك تفوق المسلمون في صناعة الحرير والأطلس والمنسوجات الحريرية المشجرة والسجاجيد.. وامتازت دمشق بصناعة الأقمشة الحريرية التي لا تزال تسمى "الدمقس".. واشتهرت مصر بصناعة السفن للتجارة والأساطيل للحروب.. ثم يقول المؤلف: وقد وصفت لنا بعض المصادر حضارة بغداد الصناعية في العصر العباسي الأول وصفاً يدل على عظمة تلك المدينة والحضارة الخالدة التي بقيت طويلاً كمشعل للتقدم، والتي تم وضع لبنتها في عهد أبي جعفر المنصور!".
ويفيض المؤلف في حديثه عن التجارة في العصر العباسي الأول وما بلغته من تقدم وانتعاش، وحسبنا أن نعلم أن المسلمين يومئذ كانوا يصدرون إلى البلاد الغربية أصنافاً من الحاصلات والصناعات.. ولقد كان عهد المنصور الجذوة الأولى لتلك الحركة التجارية الواسعة كما كان الجذوة الأولى أيضاً لذلك الانتعاش الاقتصادي الذي ارتكزت عليه حضارة الدولة في شتى نواحيها.
وعلى نحو ما كانت عناية المنصور بالنواحي الاقتصادية في مجالاتها المختلفة، كانت عنايته بالنواحي الفكرية من علم وأدب وثقافة وترجمة.. كما امتاز عهده بنهضته العمرانية بسبب اتساع رقعة الدولة، وتدفق الثراء على بيت المال، واختلاط العرب بالأمم الأخرى الخاضعة لدولة المسلمين.
* * *
ويختم المؤلف كتابه الرائع بالحديث عن المنصور في أيامه الأخيرة فيقول في ما يقول: ناهز أبو جعفر الستين من عمره حين استقبل عام "155هـ/771م" وقد جال الشيب في رأسه، ورسمت الأيام بأحداثها الجسام غضوناً بين عينيه، وعلى أديم وجهه، فبدا في مظهره أكبر سناً مما هو فيه.. وليس في ذلك غرابة فقد كان الرجل عصامياً، رغم وراثته الملك عن أخيه، وكان مناضلاً في سبيل تأسيس دولته منذ تسلمها وهي أشبه بالهيكل المتداعي.. فتعرقته الخطوب وعاركه الزمن في سلسلة طويلة من الأزمات والمشاكل، حتى خلع في تذليلها عذارى شبابه وكهولته، فبلغ غايته بعد أن دفع الثمن غالياً من كدحه وجهاده، ومن عصارة روحه وأعصابه، ومن قوله: "الملوك ثلاثة، فمعاوية بن أبي سفيان وكفاه زياد -أي زياد ابن أبيه- وعبد الملك بن مروان وكفاه حجاجه.. وأنا ولا كافي لي".. وشاءت الظروف بعد الذي جرى بينه وبينها.. أن تهادنه وتسالمه، وهو يجتاز العتبة الأولى من شيخوخته، وأن تترك له الأعوام الأربعة الأولى الباقية من حياته في دعة وأمن واستقرار.. كل شيء كان هادئاً في جوانب الدولة الواسعة والأمور تسير على نظام والخراج يجبى على حد الدانق والدرهم وأموال خزينة الدولة في تضخم، والمنصور يشرف باهتمام على شؤون رعيته وتطبيق أحكام الشريعة بينهم بالعدل.. وقد مشت به السنون فازداد خبرة ومراساً وأرهف حسه إلى حد بعيد.. فلم يعد يقبل جوراً من عامل.. قيل إن أخاه "العباس بن محمد" كان والياً على الجزيرة، فسمع عنه أنه يظلم الناس ويسيء إلى بعض رجالات الدولة المخلصين فعزله واستدعاه، ثم حاكمه فوجد أن ما اتهم به كان صحيحاً فحبسه سنة 155هـ وغرمه مالاً وأبقاه زمناً في محبسه حتى تكلم به عيسى بن موسى، فرضي عنه على أن لا يعود لمثلها، وغضب على عمه "إسماعيل بن علي" لسبب آخر، فعزله واستبقاه في بيته ولم يطلق سراحه حتى اعتوره أهله وعمومته ونساؤهم يكلمونه فيه وضيقوا عليه.. وفي سنة 158هـ اعتزم المنصور السفر إلى مكة ليموت ويدفن فيها -كما كان يردد- ويقول المؤلف في ذلك: "كان المنصور يعتقد بأن أجله قد اقترب ويقول: إني ولدت في شهر ذي الحجة، وتوليت الخلافة في ذي الحجة وأهجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة هذه السنة"، وعلى ذلك قرر السفر إلى مكة ليموت ويدفن فيها، فأوعز إلى وزيره "الربيع بن يونس" أن يهيئ الموكب، ويتخذ له وسائل الراحة والأمن، وأشار إلى عدد من كهول بني العباس وشبابهم أن يصحبوه في حجته هذه.. وكان ابنه المهدي يومئذ في مدينة "الرقة" فأرسل له كتاباً في شهر شعبان من تلك السنة "158هـ/774م" يدعوه إلى بغداد ليكون نائباً عنه في إدارة شؤون الخلافة أثناء غيبته، فقدم في شهر رمضان، ودخل على أبيه في قصر الخلد فوجده وقد أخذ المرض من نشاطه ورونقه وسأله إذا كان في الإمكان تأجيل السفر إلى عام آخر خوفاً من متاعب الطريق وكلفة الرحيل، فقال له المنصور: "أريد أن أبادر إلى حرم ربي وأمنه!". ثم أخذ يحادثه في ما يجب أن يصنع عند غيابه إذا عاد، وعند موته إذا انتهى أجله.. وفي شوال كان موكب الحج على أهبة السفر فركب المنصور في موكب عظيم، وصحبه ابنه المهدي حتى نزل "قصر عبدويه" قبل الكوفة وأقام فيه أربعة أيام كان يجتمع فيها بابنه المهدي فيبصره بأمور دولته، ويحدثه عن مشاكلها، ويعرفه برجالها واحداً واحداً، ويحذره من بعضهم ويطمئنه عن البعض الآخر.. حتى إذا حان موعد السير قدم إليه نصيحته الأخيرة -وهي من أروع ما تكون النصيحة آنذاك- قال فيها:
"إني ولدت في ذي الحجة ووليت في ذي الحجة، وقد هجس في نفسي أني أموت في ذي الحجة من هذه السنة، وإنما حداني على الحج ذلك، فإنا لله وأنا إليه راجعون، يا بني اتق الله في ما أعهد إليك من أمور المسلمين بعدي، يجعل لك في ما كربك وحزنك فرجاً ومخرجاً، ويرزقك السلامة وحسن العاقبة من حيث لا تحتسب.. يا بني، احفظ محمداً صلى الله عليه وسلم في أمته يحفظك الله، ويحفظ عليك أمورك.. وإياك والدم الحرام فإنه حوب عند الله عظيم، وعار في الدنيا لازم مقيم، والزم الحدود فإن فيها خلاصك في الآجل وصلاحك في العاجل، ولا تعتد فيها فتبور، فإن الله لو علم أن شيئاً أصلح منها لدينه، وأزجر عن معاصيه لأمر به في كتابه..".
"واعلم أنه من شدة غضب الله لسلطانه أنه أمر في كتابه بتضعيف العذاب والعقاب على من سعى في الأرض فساداً مع ما ذخر له عنده من العذاب العظيم، فقال: إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، ويسعون في الأرض فساداً، أن يقتلوا أو يصلبوا.. الآية.. يا بني: فالسلطان حبل الله المتين، وعروته الوثقى، ودينه القيم، فاحفظه وحصنه، وذد عنه، وأوقع بالملحدين فيه، واقمع المارقين منه واقتل الخارجين عنه بالعقاب، ولا تتجاوز ما أمر الله به في محكم القرآن.. واحكم بالعدل ولا تشتط، فإن ذلك أقطع للشغب وأحسم للعدو، وأنجع في الدواء.. وعف عن الفيء، فليس بك إليه حاجة مع خلف الله لك.. وافتتح عملك بصلة الرحم، وبر القرابة، وإياك والأثرة والتبذير لأموال الرعية، واشحن الثغور، واضبط الأطراف، وأمن السبل وسكن العامة، وأدخل المرافق عليهم وادفع المكاره عنهم، وأعد الأموال واخزنها، وإياك والتبذير فإن النوائب غير مأمونة، وهي من شيم الزمان، وأعد الكراع والرجال والجند ما استطعت، وإياك وتأخير عمل اليوم إلى الغد فتتدارك عليك الأمور وتضيع، وجد في أحكام الأمور النازلات لأوقاتها أولاً فأولاً، واجتهد وشمر فيها.. وأعد رجالاً بالليل لمعرفة ما يكون بالنهار.. ورجالاً بالنهار لمعرفة ما يكون بالليل.. وباشر الأمور بنفسك، ولا تضجر ولا تكسل واستعمل حسن الظن بربك، وأسئ الظن بعمالك وكتابك، وخذ نفسك بالتيقظ، وتفقد من تثبت على بابك، وسهل أذنك للناس.. وانظر في أمر النزاع إليك، ووكل بهم عيناً غير نائمة، ونفساً غير لاهية.. ولا تنم، وإياك أن تنام، فإن أباك لم ينم منذ ولى الخلافة، ولا دخل عينه الغمض إلاّ وقلبه مستيقظ.. هذه وصيتي إليك، والله خليفتي عليك..".
ثم ودعه وبكى كل واحد منهما إلى صاحبه، وعاد المهدي إلى بغداد.. وسار المنصور إلى مكة.. يقول المؤلف: "حتى إذا بلغ المرحلة الأخيرة من طريقه قال له الربيع: يا أمير المؤمنين ها قد وصلنا "بئر ميمون" وقد دخلنا الحرم.. فقال: الحمد لله فهل لك أن توصلني إلى الكعبة؟؟ ثم أغمي عليه فأمر الربيع بالنزول خوفاً على حياته ولم يشأ أن يتم السير ثلاثة أميال أخرى، ومنع أحداً من الناس الدخول عليه في سرادقه وهو في شبه غيبوبة طويلة.. وأقبل وجوه مكة في استقباله، وفي مقدمتهم أميرها "محمد بن إبراهيم" الإمام العباسي، ولكنهم لم يستطيعوا رؤيته ذلك اليوم، ثم جن عليه الليل.. وفي هدأة الفجر من تلك الليلة يوم السبت في السادس من شهر ذي الحجة عام (158هـ-775م) خرجت روحه إلى بارئها.. ثم يقول المؤلف:
وهكذا انتهت حياة جد ملوك بني العباس، ومؤسس دولتهم التي دامت بعد موته نحواً من خمسمائة سنة (158-656ه) واستخلف فيها بعده خمسة وثلاثون خليفة كلهم من أبنائه وأحفاده، وانطوت بموته صحيفة بطل من أبطال العرب، وداهية من دهاتهم، وسياسي قلما جاد الزمن بأمثاله علماً وحزماً وشجاعة وتدبيراً فكان أحد الأفذاذ من الرجال الذين ملأوا كتب التاريخ العربي الإسلامي بأخبارهم وروائعهم. عاش ثلاثاً وستين سنة ودامت خلافته اثنين وعشرين عاماً، فشمت به البعض وبكاه البعض الآخر، ورثاه الشعراء..
* * *
ويمضي المؤلف في حديثه مشيراً إلى ما خلفه المنصور من أموال في خزائن الدولة عند وفاته.. لقد كانت -كما قيل- ثمانمائة ألف ألف درهم أي ما يعادل في يومنا هذا أربعة آلاف مليون دينار حسب قيمة العملة، ولعلّ أعظم من هذا كله ما ورثه المهدي عن أبيه من دولة موحدة لا فتوق فيها، يسودها الطابع العربي الإسلامي وقوة حربية جبارة في مجموعة من خير القادة العرب، وبلاط ضخم غني برجال من أرباب السيف والقلم والفكر.. وسمعة مشرقة بين تلك الأمم المجاورة، فقلما ورث ولي عهد مثل هذا، وقلما ترك عاهل وراءه دولة كهذه.. التي اتبعت التاريخ في تدوين أحداثها، نحواً من خمسمائة عام.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :1876  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 9 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من اصدارات الاثنينية

الأعمال الشعرية والنثرية الكاملة للأستاذ محمد إسماعيل جوهرجي

[الجزء الخامس - التقطيع العروضي الحرفي للمعلقات العشر: 2005]

الاستبيان


هل تؤيد إضافة التسجيلات الصوتية والمرئية إلى الموقع

 
تسجيلات كاملة
مقتطفات لتسجيلات مختارة
لا أؤيد
 
النتائج