الوليد بن عبد الملك |
الدكتورة سيدة إسماعيل كاشف |
ظاهرة جميلة جداً في عالم التأليف اليوم هو ما نراه من عناية ملحوظة بأدب التراجم، واحتفاء بالغ بتاريخ الأعلام. |
ومن الجدير بالذكر أن يكون لأعلام العرب نصيبهم في هذا المجال موفوراً يتمثل في الكثير من الدراسات التاريخية المركزة يعالجها بالأسلوب الحديث نخبة الكتّاب والباحثين. |
والحق أن كتابة التراجم أصبحت اليوم فناً متميزاً، يعتمد أول ما يعتمد على الدراسة الموضوعية.. والنقد والتحليل. |
وما أكثر ما تناولت الدراسات المعاصرة أشخاصاً مرموقين قاموا بأهم الأدوار، ومع ذلك كاد الإهمال الطويل يضفي على أعمالهم وشخصياتهم -رغم تفوقهم!- حجاباً كثيفاً من النسيان، ولعلّ الخليفة الأموي العمراني، كما يوصف -وكما يوصف بحق- ونعني به الوليد بن عبد الملك بن مروان الثالث من خلفاء آل مروان، والسادس من خلفاء أمية.. لعلّ الوليد يأتي في أوائل الشخصيات البارزة الإسلامية، ممن أهملهم مؤرخونا القدامى، فلم يفردوا لواحد منهم سيرة حياة يشملها كتاب مستقل، يصور شخصيته وأعماله للناس.. وما أشبه الوليد من هذه الناحية بأبيه العظيم عبد الملك بن مروان. |
عبد الملك.. الذي لم تظفر المكتبة العربية بكتاب يترجم لنا حياته في إطار مستقل سوى أخيراً منذ عام وأكثر من عام عندما ظهر -في سلسلة أعلام العرب- أول كتاب يتحدث عن ثاني مؤسس.. وثاني رجل -بعد معاوية- في تاريخ الأمويين..! |
وكتاب "الوليد بن عبد الملك" للدكتورة سيدة إسماعيل كاشف، وهو من سلسلة أعلام العرب أيضاً، يعتبر -في الواقع- متمماً لكتاب "عبد الملك بن مروان" للدكتور ضياء الدين الريس.. والذي سبق أن عرضنا له في الفصل السابق.. |
والحق أن سيرة الوليد نفسها منذ أن تبوأ عرش خلافة دمشق، امتداد لسيرة أبيه عبد الملك ولئن اعتبر التاريخ عبد الملك المؤسس لحكم آل مروان بل الرجل الذي أعاد لبني أمية بصورة عامة قيادتهم للدولة وزعامتهم للحكم، في الوقت نفسه الذي أعاد فيه للدولة الإسلامية وحدتها وهيبتها وشوكتها على نحو ما كانت عليه زمن معاوية -رضي الله عنه- فالوليد -لا شك- هو الموطد لدولة أبيه.. وأكثر من ذلك.. ما كان له من الأثر -بعد أن استقرت الدولة في أيامه- في إعادة عهد الفتوح.. حتى لقد وصف المؤرخون عصره، بأنه عصر الدور الثالث للفتوحات الإسلامية.. ولم يكن أثر الوليد في نواحي الإصلاحات الشاملة، وبخاصة الناحية العمرانية، بأقل من أثره في امتداد الفتوح! |
* * * |
وتتحدث المؤلفة فتقول: "ولي الوليد خلافة الدولة الإسلامية وعمره يزيد على الثلاثين قليلاً أو كثيراً، فمنح الدولة من شبابه الكثير واستفاد الوليد كثيراً من مجهودات أبيه "عبد الملك"، ولم ينس أن ينوّه بفضله على الدولة منذ اليوم الأول لتوليه الخلافة فاستفاد من السلام الذي بدأ يسود الدولة بعد أن أمضى عبد الملك بن مروان معظم خلافته في القضاء على الفتن والحروب الداخلية التي كادت تمزق الدولة الإسلامية شر ممزق.. كما أنه اقتفى أثر أبيه في الإصلاح والتعمير، بل إنه اعتمد على الرجال الذين اعتمد عليهم أبوه.. والمعروف أن عبد الملك مهد للفتوحات الواسعة التي تمت في عهد ابنه الوليد.. وهكذا نرى الوليد يستفيد من مجهودات أبيه في تعمير الدولة الإسلامية، وفي تعريبها، وفي نشر نفوذها، وليس غريباً -إذن- أن نرى ما تم على يدي الوليد الشاب في مدة لا تعدو العشر سنوات قد تعجز الدول عن الوصول إليه في قرون عديدة". ثم تتحدث عن إدارة الدولة وسياستها المالية في عهد الوليد فتقول في ما تقول: |
أعز الإسلام العرب، ووحد كلمتهم، وخلق منهم العظماء في الحرب والسياسة والإدارة، وخرج العرب من شبه جزيرتهم يفتحون البلاد شرقاً وغرباً وأصبحوا يكونون الأرستقراطية العسكرية في جميع البلاد التي فتحوها. |
ثم تقول: ولعلّ براعة العرب السياسية تجلت في إدارتهم للبلدان والأقطار المفتوحة؛ فقد فتح العرب بلاداً راقية في نظمها متقدمة في حضارتها، فأبقوا على تلك النظم، ولم يحاولوا أن يزاحموا أهل البلاد المفتوحة في أراضيهم الزراعية، أو في أعمالهم الصناعية والتجارية أو في وظائفهم، وإنما اكتفى العرب بشغل بعض المناصب الرئيسية ليشرفوا على الإدارة بوجه عام.. وتمضي المؤلفة في حديثها في هذا الصدد إلى أن تقول: وكان أكثر الخلفاء الأمويين يقتلون العامل إذا اتضح لهم ظلمه أو اشتطاطه في تقاضي الخراج والجزية والصدقات ولم يكن بين هؤلاء الخلفاء وبين رعيتهم حجاب، فكان حكم الأمويين لا يزال ديمقراطياً، وقد أعطى الأمويون لعمالهم سلطاناً واسعاً لإدارة ما عهد إليهم به حتى يسرعوا في البت في مصالح الناس، وعمران البلاد، وفي فض الخصومات والمنازعات. |
وتوسع الأمويون في أعطيات وأرزاق عمالهم، وكان ذلك نتيجة لورود المال إلى خزينة الخلافة من البلاد المفتوحة.. والحق أن نظام الأمويين الإداري والمالي كان استمراراً لنظام الخلفاء الراشدين، كما أنه كان متمماً لهذا النظام نتيجة للظروف التي وجد فيها.. وهو في الوقت نفسه ممهد للنظام الإداري والمالي العباسي.. |
* * * |
وتتحدث في الفصل الرابع عن الحجاج واستعانة الوليد به في إقرار الأمن في شرق العالم الإسلامي، ثم في توسيع الدولة العربية شرقاً، وتصفه بأنه من أقدر الرجال الذين ظهروا في تاريخ الدولة العربية. |
ونحن مع المؤلفة الفاضلة في الاعتراف بكفاءة الحجاج، وما أسداه من خدماته لعبد الملك ثم لابنه الوليد، بل لا ننكر أيضاً أنه نجح في إقرار الأمن في عصر كان يعج بشتى الاضطرابات الداخلية، بل ولا ننكر أيضاً أثره في توسع الدولة وفي امتداد الفتوح، وكلنا مع ذلك لا نستطيع أن ننكر قسوته البالغة وطغيانه الشديد، وما كان من أثر ذلك في الإساءة إلى سمعة الأمويين أنفسهم، وما أكثر ما وجه إليه عبد الملك بن مروان من رسائل اللوم والتأنيب في مختلف المواقف والمناسبات. |
وتنتقل المؤلفة في الفصل السادس إلى بحث العصبية القبلية في العصر الأموي وما كان من ابتعاد كل من عبد الملك وابنه الوليد عن صراعها.. فقد استطاعا -كما تقول المؤلفة- أن يسيّرا دفة الدولة بعيداً عن تيارات العصبية القبلية.. ولو أن هذه العصبية ما لبثت أن استعر أوارها بعد وفاة الوليد. |
ثم تنتقل المؤلفة في الفصل السابع لتتحدث عن دولة عربية مترامية الأطراف، توطدت دعائمها للمرة الثانية في العهد الأموي على يد عبد الملك، وما جناه الوليد من ثمرات مجهودات أبيه في توطيد الحكم والقضاء على الفتن الأهلية.. الأمر الذي دفعه إلى أن يستأنف عهد الجهاد، ونشر النفوذ العربي الإسلامي في مناطق جديدة لم تصلها جيوش العرب من قبل، وهي تقرر أن عصر الوليد يعتبر "عصر الدور الثالث" للفتوحات، على اعتبار أن الدور الأول للفتوحات الإسلامية وهو الدور الذي تم فيه فتح العراق وفارس والشام ومصر وجزء من شمال أفريقية كان في عهد أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- أما دور الفتوحات الثاني وهو الدور الذي امتد فيه سلطان العرب إلى خراسان وآسيا الوسطى شرقاً وإلى شمال أفريقية غرباً وإلى عمان على ساحل الخليج العربي فقد كان في عهد معاوية وعبد الملك بن مروان! |
* * * |
وتقول المؤلفة: "كان عصر الوليد هو عصر الدور الثالث للفتوحات العربية، وقد بسط العرب سلطانهم في عهده على أكبر بقعة من العالم حينذاك.. وكان اتساع الفتوحات في أيام الوليد هو أعظم اتساع بلغته الفتوحات العربية فأضاف إلى دولتهم إقليم ما وراء النهر وحوض السند، ووصل العرب إلى حدود الصين وكذلك ثبت العرب أقدامهم في شمال أفريقية، وفتحوا إسبانيا وحاولت الدولة العربية الوصول إلى القسطنطينية "عاصمة الدولة البيزنطية" من ناحية الشرق ومن ناحية الغرب، وكانت رغبة العرب في نشر الدين الإسلامي، بالإضافة إلى رغبتهم في توسيع نفوذهم السياسي وإعلاء كلمة الله، من أكبر العوامل التي ساعدت على هذا التوسع وجعلت العرب يلاقون نجاحاً إثر نجاح، والراجح أن الأمويين كانوا يعتقدون أن نشر الدين الإسلامي وتوسيع نفوذهم شيئان لا يتعارضان، بل هما مرتبطان أشد الارتباط فكان عصر الدولة الأموية هو عصر سيادة العروبة وسيادة الإسلام، وكان عصر الوليد بن عبد الملك هو عصر إمبراطورية العرب الواسعة، إذ تضاعفت في السنوات العشر من حكم الوليد مساحة الدولة كما دخلت تحت سلطان الإسلام شعوب جديدة، من ترك وهنود وبربر وإسبان. |
وفي الفصول الثامن والتاسع والعاشر والحادي عشر، تتناول المؤلفة بالبحث موضوع العلاقات بين العرب والروم وما كان من أمرها في عهد الوليد، ثم الدواوين وتعريبها وهو ما بدأ به عبد الملك -على ما هو معروف- وقد سار الوليد على سياسة أبيه في ذلك.. ففي سنة 87هـ أمر واليه على مصر "عبد الله بن عبد الملك" بتدوين الدواوين في مصر باللغة العربية بعد أن كانت تكتب بالقبطية.. فجاء هذا العمل في عهد الوليد تتمة لما بدأه الخليفة عبد الملك في سياسة التعريب.. |
والواقع أن هذا التعريب كما تقول المؤلفة كان أول عملية ترجمة منظمة وجبارة، وقد أدى إلى نقل كثير من المصطلحات الفارسية واليونانية والقبطية إلى العربية.. وقد ساعد التعريب على شيوع اللغة العربية وانتشارها بين الموالي فأصبحت اللغة العربية لغة الدواوين، كذلك أصبحت لغة الإدارة، فضلاً عن أنها صارت لغة الثقافة، بالإضافة إلى أنها لغة السياسة والدين. |
كان الوليد أعظم الخلفاء الأمويين أثراً في العمارة والفنون. وقيل إن الناس في دمشق كانوا يتحدثون في عهد سليمان عن الطعام والشراب، وفي عهد عمر بن عبد العزيز عن الدين والقرآن، وفي عهد الوليد عن الفنون والعمران.. |
والواقع أن الوليد سار على نهج سياسة أبيه وسياسة الأمويين في العناية بالعمائر والفنون، ويشيد المؤرخون والأدباء القدماء بذلك مثل "اليعقوبي" و "الطبري" في تاريخيهما و "الثعالبي" في "لطاف المعارف" وابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار، و "القلقشندي" في صبح الأعشى، ويؤيد ما ذهب إليه المؤرخون والأدباء النقوش الأثرية التي ترجع إلى عهد الوليد والآثار التي لا تزال إلى يومنا هذا، وأعظمها الجامع الأموي في دمشق، والأوراق البردية التي ترجع إلى عهد الوليد، والدراسات القيمة الحديثة التي قام بها علماء الآثار مثل دراسات الأستاذ "كريزول" والدكتور "زكي محمد حسن". |
كذلك يذكر المؤرخون أن الوليد كان مغرماً ببناء الجوامع وامتلاك الضياع وكان الناس في أيامه يسيرون سيرة خليفتهم ويحرصون على التشييد والتأسيس، ويولعون بالضياع والعمارات لوفرة الثروة في أيديهم. ويروى أن أحد عمال الوليد بن عبد الملك كتب إليه أن بيوت الأموال قد ضاقت من مال الخمس، فكتب إليه أن يبنوا المساجد، كذلك أجرى الوليد على العميان وأصحاب العاهات والمجذومين وجعل لكل واحد خادماً، كذلك كان يهب أكياس الدراهم لتفرق في الصالحين وزاد الوليد الناس جميعاً في العطاء وخاصة أهل الشام.. ويذكر "الطبري" أن الوليد كان عند أهل الشام أفضل خلائفهم؛ بنى المساجد: مسجد دمشق، ومسجد المدينة، وأعطى الناس وقال لا تسألوا الناس.. وكان الوليد أول من أمر بتشييد المستشفيات لذوي الأمراض المزمنة والمستعصية. |
* * * |
وعني الوليد بتجديد الكعبة في مكة وتوسيعها، كذلك عني بتجديد المسجد النبوي في المدينة، ولم تكن المساجد التي شيدت في عصر النبي عليه الصلاة والسلام والخلفاء الراشدين ترمي إلى أكثر من جمع المصلين في مكان واحد، فكان مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة مساحة من الأرض مربعة الشكل تحيط بها جدران من الآجر والحجر، وعلى جزء منها سقف من جريد النخل تغطيه طبقة من الطين بالإضافة إلى عدد من جذوع النخل، وزاد عمر بن الخطاب في هذا المسجد وجدده عثمان بن عفان.. لكن العمارة الكبرى التي جعلته مثالاً للمساجد في العصور التالية، هي التي تمت على يد الخليفة الأموي الوليد بن عبد الملك في سنة 87هـ أو سنة 88هـ/707م، وقد أشار إليها البلاذري في "فتوح البلدان" بقوله: "ثم لم يحدث فيه شيء إلى أن ولي الوليد بن عبد الملك بن مروان بعد أبيه فكتب إلى عمر بن عبد العزيز، وهو عامله على المدينة يأمره بهدم المسجد وبنائه، وبعث إليه بمال وفسيفساء ورخام وثمانين صانعاً من الروم والقبط من أهل الشام فبناه وزاد فيه". ولم يكن المحراب المجوف معروفاً في المساجد قبل عصر الوليد، وحين أُعيد بناء مسجد المدينة في عهده، عمل له محراب مجوف، كذلك ذاعت المنابر في العصر الأموي.. أما أبدع العمائر الأموية فكان المسجد الجامع في دمشق، وكان هذا الجامع الأموي من أجل وأعظم ما بني في عصر الوليد.. ففيه آيات للفن العربي البديع، وفيه معانٍ لعظمة العرب وتفوقهم وغلبتهم في كافة الميادين.. والحق أن المؤرخين والأدباء أفاضوا في وصف هذا الجامع الأموي حتى قيل إن الزائر لهذا المسجد يرى فيه كل يوم شيئاً جديداً، لم يره من قبل من حسن صنائعه واختلافه.. وقد أعجب بهذا المسجد كل من رآه من مشرق ومغرب، والحق أن النفقات التي قيل إنها أنفقت على بناء هذا المسجد لا تكاد تذكر بجانب هذا الفخر للعرب وبجانب هذه العظمة البالغة في العمارة والفنون، وبالرغم من هذه النفقات الباهظة، فإن المصادر تجمع على أن الوليد لم يظلم أحداً، ولم يغبن عاملاً في أجر.. |
* * * |
ومن أمتع ما تناولته المؤلفة بالبحث في فصلها الحادي عشر -والأخير- دراستها للحياة العقلية في عهد الوليد والعصر الأموي بصورة عامة، وهي في ذلك تقول: "شهد العصر العباسي ازدهار الحياة العقلية عند المسلمين، ولكن أسس هذه النهضة وضعت في العصر الأموي.. وكانت مراكز الحياة العقلية في العصر الأموي البصرة والكوفة ومكة والمدينة ودمشق والفسطاط، أما البصرة والكوفة فقد أفادتا من موقعهما الجغرافي وكانت من أهم الأمصار العربية الأولى التي كان العرب يتخذونها قواعد عسكرية يوجهون منها جيوشهم للفتوحات، ومراكز لإدارة الأقاليم التي يفتحونها، فازدهرت فيهما الحياة الاقتصادية ازدهاراً كبيراً، واستقر فيهما عدد كبير من الموالي، حتى لقد قيل إن عدد سكان كل منهما زاد على مائة ألف نفس.. |
وقامت في البصرة والكوفة مدرستان، أو مذهبان في النحو والأدب العربي. ولم تكن العناية بالصرف والنحو يقصد بها تعليم العربية للموالي فحسب، بل قصد بها مقاومة تفشي اللحن وانتشار اللهجات التي كانت تبتعد تدريجياً عن اللغة العربية الفصحى.. وظهر في البصرة أبو الأسود الدؤلي الذي ينسب إليه وضع النحو والمتوفى سنة 69هـ-688م -كما عنى الفقهاء في البصرة والكوفة في العصر الأموي بدراسة العلوم الدينية والإسلامية ولا سيما الحديث والفقه.. |
وبدأ تدوين التاريخ في العصر الأموي بسبب الحرص على جمع الأخبار الخاصة بسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وأعلام الصحابة، وحوادث الفتوحات والرغبة في الإلمام بأخبار الأشخاص، والأمكنة الواردة في القرآن، والشعر القديم، والعمل على إثبات أنساب العرب لتقرير ما يفرض لهم من العطاء، فضلاً عن حرص بعض الموالي على تدوين أخبار ملوكها وحضارتها قبل الإسلام، وحرص العرب من أهل اليمن على الإشادة بحضارة بلادهم في الجاهلية، فضلاً عن أن حاجة الشعر إلى عناصر الفخر والهجاء كانت تقتضي معرفة أخبار الأوائل، ومآثر القبائل ومثالبها.. وكان تدوين أخبار الفتوحات لازماً لإثبات ما فتح من البلاد عنوة، وما فتح منها صلحاً لأن لكل منها حكماً في النظم المالية.. وهكذا تألفت "الأخبار" في فجر الإسلام من السيرة النبوية وأخبار الفتوح والمغازي، فضلاً عن أخبار الجاهلية وأنساب العرب.. ولكن التاريخ كان في فجر الإسلام فرعاً ثانوياً من علم الحديث، وتأثر بأساليب المحدثين، في جمع الروايات التاريخية وإسنادها، غير أنه لم يخضع بعد ذلك لكل ما خضعت له الأحاديث النبوية من نقد الناقلين، وهو ما يسمى "الجرح والتعديل"، فضلاً عن أنه لم يخضع لنقد الروايات التاريخية نفسها، وكانت عنايته بأخبار الأشخاص أعظم بكثير من عنايته بدراسة المجتمع وأحواله. |
* * * |
ووضعت في العصر الأموي أسس كثيرة من الحركات الفكرية التي ظهر أثرها في الحياة العقلية الإسلامية، ولا سيما في العصر العباسي.. واعتنق بعض النساطرة الإسلام كغيرهم من علماء المسيحية، وبدأوا مع بعض المسيحيين في نقل الكتب اليونانية إلى العربية.. واتجه بعض الأمراء الأمويين إلى البحث العلمي مثل خالد بن يزيد بن معاوية، ويروى أنه اشتغل بالكيمياء، أو علم الصنعة والطب، وتعلمهما على كاهن من الإسكندرية، ثم نقلت له بعض الكتب العلمية من اليونانية والقبطية، وأنفق خالد بن يزيد أموالاً كثيرة في دراسة الكيمياء العلمية.. ولا شك أن العرب عنوا بعلم الطب.. وكان من أطباء البلاط الأموي الطبيب النصراني "ابن آثال" طبيب معاوية.. وعكف الطبيب الفارسي الأصل "ماسرجويه" في خلافة مروان بن الحكم على ترجمة كتاب في الطب عن السريانية فكان أول كتاب علمي بلغة العرب. |
أما الوليد بن عبد الملك فإنه عني بالمصابين بالأمراض المزمنة ورتب لهم من يعنى بأمرهم. |
وكان للوليد الفضل بذلك في إنشاء أول مؤسسة صحية في الإسلام. |
* * * |
ولم يعرف المسلمون في العصر الأموي المدارس بالمعنى الحديث، لكن الخلفاء كانوا يرسلون أبناءهم إلى البادية لتعلم العربية، كما كان بعضهم يختار لأبنائه مؤدباً أو معلماً، وكان الأغنياء يفعلون ذلك أيضاً، وغدا المؤدب في عهد عبد الملك بن مروان في جملة حاشية البلاط.. وكان مقياس التعليم عندهم أن يكتب الرجل العربية ويقرأها ويتقن السباحة والرماية.. وكانت المدارس الأولى في الإسلام منذ عصر الخلفاء الراشدين وفي عصر بني أمية هي المساجد.. |
ثم تشير المؤلفة -أخيراً- في خاتمة كتابها إلى ما تميز به عهد الوليد بن عبد الملك بن مروان في شتى النواحي السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والفنية والحربية، وترى أنه لم تكن ظروف وأحوال الدولة العربية حينذاك هي التي توجه الوليد فقط.. وإنما كان للوليد أعظم أثر في توجيه معظم الأحداث الهامة آنذاك إلى أن تقول: "وكان عهد الوليد عهد إصلاح وتعمير وإنشاء، واهتمام بشؤون الرعية، كذلك كان عهد الوليد عهد عظمة وتفوق في الفنون العربية. وكان الوليد بن عبد الملك أعظم الخلفاء الأمويين أثراً في البناء، ولا يزال الجامع الأموي في دمشق يشير إلى عظمة هذا الخليفة العربي. وكان سلطان الوليد قوياً، وحكومته مهابة.. وسار الوليد على هدى سياسة أبيه عبد الملك الذي وضع نفسه فوق المنازعات القبلية، واستطاع الوليد مترسماً خطوات أبيه، أن يسير دفة الدولة العربية إلى شاطئ الأمان بعيداً عن مكامن الخطر على الدولة، والتي كانت تتمثل في حركات الخوارج والموالي، وفي العصبية الإقليمية بين العراق والشام، وفي العصبية القبلية التي انبعثت بعد موقعة مرج راهط. |
واستأنف الوليد عهد الجهاد، ونشر النفوذ العربي في مناطق جديدة لم تصلها الجيوش العربية من قبل، أو لم تثبت أقدام العرب فيها بعد.. وقد بسط العرب في عهده سلطانهم على أكبر بقعة من العالم القديم حينذاك.. وكان توسع العرب في أيام الوليد هو أعظم توسع بلغوه، واتصل العرب بالثقافات الهندية والإيرانية والتركية والمغولية والصينية، وكان الوليد هو القائد الأعظم لهذه الفتوح الرائعة التي حملت معها العروبة والإسلام، والتي خطت بأهل البلاد المفتوحة قروناً إلى الأمام، والتي نتج عنها انتشار الحضارة الفذّة التي غذت أوروبا في عصور ظلامها، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن عصر الوليد يمثل أوج مجد الأمويين. |
|