شارع عبد المقصود خوجة
جدة - الروضة

00966-12-6982222 - تحويلة 250
00966-12-6984444 - فاكس
                  البحث   

مكتبة الاثنينية

 
عبد الملك بن مَرَوان
الدكتور ضياء الدين الريس
في سلسلة "أعلام العرب".. ظهر هذا الكتاب القيّم عن الخليفة الأموي "عبد الملك بن مروان".
وما بنا من حاجة إلى أن نقول إنه من حق "عبد الملك بن مروان" وهو أحد ثلاثة أو أربعة خلفاء عمالقة في تاريخ الإسلام كله، بعد الخلفاء الأربعة الراشدين.. من حق هذا الرجل الضخم ذي التاريخ الحافل أن تؤلف حوله كتب.. وتخصص له دراسات:
فعبد الملك بن مروان، هو الذي أعاد للدولة الأموية كيانها قوياً شامخاً بعد أن أوشك هذا الكيان أن يتهاوى وينهار!
والعجيب في أمر عبد الملك وأبيه مروان من قبله أن يكون مجيئهما إلى دمشق -عاصمة بني أمية- يُعَدُّ مصادفة من أروع المصادفات دون أن يسبق ذلك منهما أي قصد أو أي تدبير بعد أكثر من أربعين عاماً أمضياها وأسرتهما في المدينة المنورة في شبه عزلة عن كل الأحداث.. ثم يكون مجيؤهما إلى دمشق بعد ذلك إرغاماً لا اختياراً بداية نضال عنيف.. لم يكن في حسبانهما قط وكان نضالاً في نفس الوقت خيراً كله بالنسبة لهما.. وخيراً كله بالنسبة للأمويين!
جاء مروان إلى دمشق مهاجراً أو منفياً.. بعد أن أوشكت دمشق يوم جاءها مروان أن تبايع لابن الزبير..
جاء مروان إلى دمشق في فترة يأس، وفي فترة اضطراب ظلت تعيشهما دمشق منذ موت يزيد، وتنازل ابنه معاوية.. فما أسرع ما تغير الأمر.. وما أسرع ما بويع لمروان!! كان ذلك في أواخر عام 64هـ.. ثم يشاء الله أن يموت مروان في العام التالي "رمضان 65هـ" ويتولى الخلافة ابنه "عبد الملك".. ومن هنا يكتب التاريخ صفحته الجديدة الرائعة عن الدولة الأموية.. ولنستمع الآن للمؤلف:
يقول الدكتور ضياء الدين الريس:
في غرة رمضان من عام 65 وجد "عبد الملك بن مروان" نفسه خليفة.. أقبل عليه زعماء بني أمية، وأمراء الجنود ورؤساء القوم، فسلموا عليه بالخلافة في "دار الخلافة" بدمشق.. بدأت -إذن- خلافة عبد الملك في مستهل رمضان من عام 65هـ وهو الموافق عام 685م.
* * *
فمن هذا الخليفة، الذي جلس على عرش الخلافة في دمشق في ذلك التاريخ.. وإليه آلت المسؤوليات الضخمة؟ من هو عبد الملك؟
فأما نسبه، فهو عبد الملك بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية بن عبد شمس، بن عبد مناف.. وفي عبد مناف يجتمع عبد الملك بن مروان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في النسب.. فعبد مناف هو أبو الهاشميين والأمويين جميعاً لأن هاشماً هو ابن عبد مناف.. وأمية ابن عبد شمس بن عبد مناف.. فأمية هو ابن أخي هاشم وهاشم عمه.. فمن هذا يعرف ما بين الفرعين الكبيرين من وثيق القربى فهما أبناء عمومة، وكانت هذه القربى جامعة بينهما، ملحوظة ومراعاة في الجاهلية فيما عدا أنه كانت توجد أحياناً منافسة بينهما.. فالذي كان حاصلاً بينهما هو منافسة في سبيل الشرف كما توجد عادةً بين فروع أسرة كبيرة لم تبلغ مبلغ العداء، ولم تصل إلى الحرب.. وقد كتب كثير عن الخصومة بين الفرعين، وبولغ فيها حتى صور ما بينهما بحالة عداء مستحكم، مقرون بعواطف الحقد والبغض والمرارة وليس هذا صحيحاً، ولا يتفق مع واقع التاريخ، وإنما هو قراءة للتاريخ الماضي في ضوء الأحداث التالية، وهو ما يسمى بعكس الترقيب الزمني، وهو من الأخطاء المعروفة في تصوير التاريخ..
وقد وقف بنو هاشم وبنو أمية جميعاً جنباً إلى جنب في حرب الفجار، وقاتلوا أعداءهم.. وقف بنو عبد المطلب بن هاشم إلى جانب أبناء أمية بن عبد شمس حتى نالوا الظفر..
لكن الإسلام أتى بظروف وأحوال جديدة افترق فيها الفرعان من أجل العقيدة، ثم التأما، ثم فرقت بينهما عوامل السياسة كما تفرق دائماً وفي كل عصر بين الأحزاب والأسر، لكن الفرعين لم ينسيا أبداً -برغم الاختلاف- التقاء أصلهما في عبد مناف.. وكان الشعور بذلك عاملاً حاسماً في كثير من المواقف السياسية.
وكان "مروان" أبو عبد الملك قدم المدينة المنورة في عام 24هـ وبقي فيها وأسرته فلم يبرحها إلاّ لرحلات موقوتة وذلك حتى سنة 64هـ، أي قضى فيها أربعين سنة من حياته فيعتبر إذن من أهل المدينة والحجاز.. وكان مروان من رجال قريش، وكان من أقرأ الناس للقرآن.. وكان أهم حادث شهده -وهو لا يزال في فتوته- حادث الفتنة أو الثورة على عثمان وذلك في أواخر عام 35هـ، وقد كان بعض أسباب هذه الثورة يتعلق بمروان نفسه، وكثير من التهم التي سيقت ليس ثابتاً أو جوهرياً.. ويظهر أن مروان -وهو في عنفوان شبابه- كان يقابل الناس بالشدة ويصادمهم فيزيد من ثائرة غضبهم.. وقد دافع مروان دفاعاً مجيداً عن عثمان في يوم وقعة الدار عند محاصرته وقاتل قتالاً شديداً ليصد المهاجمين الذين اقتحموا الدار.. وهذه المعركة أظهرت مروان في دور الفروسية، وبرهنت على شجاعته وقوة شكيمته ونبل وفائه..
وقد ولاه معاوية والياً على المدينة في سنة 42هـ ولبث والياً حتى سنة 48هـ.. ولم يعينه "يزيد" في ولاية ما طوال عهده. وحين حدثت مأساة الحسين كان مروان وعبد الملك بعيدين خارج الحكم والولاية وهما مقيمان بالمدينة فلم تكن لهما أية علاقة بهذه المأساة.. وكانت علاقة مروان وعبد الملك بعلي بن الحسين علاقة طيبة.. وفي عام 64هـ هاجر مروان إلى الشام مع من هاجر إليها من بني أمية الموجودين بالمدينة.. خرج مروان وعبد الملك وآل بيتهما في رحلتهم هذه مهاجرين.. وهم يظنون أنهم ذاهبون إلى منفى، إلى مغترب وعزلة.. وكان مروان بالذات وقد بلغ من السن عتياً يفكر أنه ذاهب ليقضي الفترة الباقية من عمره في هدوء، وما دروا حينئذ -كما كانت ستبين لهم الأيام- أنهم ذاهبون ليخوضوا معتركاً سياسياً لم يشهدوه من قبل وأنهم ذاهبون ليعطيهم أهل الشام الدولة والخلافة والملك.. وأنهم ذاهبون ليسجلوا صفحات في تاريخ العرب والإسلام، وليصنعوا تاريخاً جديداً.. فبعد ستة أشهر فقط من قدومهم بويع مروان بالخلافة وأجلس على عرش دمشق في المكان الذي كان يجلس عليه معاوية الخليفة الكبير وابنه الخليفة الآخر.. وقام مروان في المدة الباقية له -وهي أقل من عام- بأعمال مجيدة: انتصر في موقعة حاسمة، وبعث جيوشاً إلى العراق والحجاز، وضمن انتقال العرش لأولاده فعقد البيعة لهم، فكل شيء كان ممهداً لتولية عبد الملك.. لقد كان آخر عام في حياته على الإطلاق..! ومع أن خصوم مروان وبيته -وهم كثير في عصره وما بعده- وبخاصة الشيعة وأنصار بني العباس -وضعوا أحاديث وأخباراً مكذوبة ترمي إلى الطعن في مروان وأبيه وذريته، فإن أحاديث مروان وعبد الملك رويت في كتب الحديث الصحيحة.. وعد مروان في الطبقة الأولى من التابعين، وعبد الملك في الطبقة الثانية واستشهد أئمة الاجتهاد بأعماله.. وشهد لهما المؤرخون بالعدالة..
وقد ولد عبد الملك بالمدينة في عام 24هـ في شهر رمضان بالتحديد، وكان هذا العام هو أول عام في خلافة عثمان التي بدأت في المحرم من ذاك العام.
كان عبد الملك -وهو أول من سمي بهذا الاسم في الإسلام- أول فرد من الأسرة يولد في بيئة إسلامية كاملة؛ من بيت شمله كله الإسلام، من أب مسلم وأقارب مسلمين، لم يدرك لحظة من الجاهلية، فكانت نشأته -إذن- منذ لحظة مولده نشأة إسلامية محضة، وأجمع معاصروه ثم المؤرخون في ما بعد على أنه كان أيضاً مثالاً ممتازاً في العبادة والنسك طوال حياته في المدينة.. قضى عبد الملك أربعين عاماً في المدينة منذ ولد فيها (24-64هـ) فلم يبرحها إلاّ لزيارات موقوتة، فهو مدني إذن وينبغي أن يعتبر من أهل المدينة.. وكانت المدينة لا تزال عامرة بعدد غير قليل من الصحابة، وعدد أكثر من التابعين، فكانت لا تزال المركز الأول للثقافة الإسلامية، والمصدر الأول للتأثير الروحي.. وإذا كانت قد فقدت كثيراً من أهميتها السياسية، بعد انتقال العاصمة إلى دمشق، فإنها مع ذلك لم تفقد أهميتها العلمية والروحية، بل إن ذلك كان أدعى لأن تتفرغ لدراسة العلم وأداء رسالة الدين.. فكانت الفرصة ميسرة -إذن- أمام عبد الملك، وقد أهّله ذكاؤه واستعداده ونشأته لذلك أن ينهل من هذا المورد السائغ الغزير.. وقد أفاد عبد الملك من هذه الفرصة الماثلة خير إفادة، ونهل من هذا المورد العذب ما شاء له جده أن ينهل، وأكبّ على تحصيل العلم باجتهاد حتى نال من العلم بغيته وحتى وصل إلى مستوى شهد له فيه بالتفرد والنبوغ، وعد من رجال المدينة المعدودين.
وقد تأثر عبد الملك في نفس الوقت بالجو الروحي الذي عاش فيه في المدينة، ولا سيما في بيئته الخاصة، حيث كان يرى عثمان مثله الأعلى، ثم أباه مروان، ثم زيد بن ثابت الذي كان مستشار عثمان، والذي قال عنه عبد الملك: "نعم المشير كان للإسلام". تأثر بهذا الجو حتى صار أيضاً نموذجاً فريداً من حيث العمل بأحكام الدين، والتزام فضائله، والعكوف على العبادة، وشهد له أيضاً بالنبوغ في ميدان الخلق الكريم، والاجتهاد في العبادة.
وإذا كانت أكثر الأقوال تشهد له بالتفوق في هاتين الناحيتين -ناحية العلم الديني والأخلاق الفاضلة- فإننا نرى أيضاً أنه حصل على أكبر قدر ممكن من الثقافة العربية، كما تدل على ذلك خطبه في ما بعد ورسائله وقوته على نقد الشعر ومناقشاته في مجالسه الأدبية مع العلماء والشعراء التي حفلت بها كتب الأدب والتاريخ.. قال الشعبي: ما ذاكرت أحداً إلاّ وجدت لي الفضل فيه.. إلاّ عبد الملك بن مروان فإني ما ذاكرته حديثاً إلاّ زادني فيه.. ولا شعراً إلاّ وزادني فيه.. والشعبي هو عالم العراق.. وقال هو أيضاً: "وفدت على عبد الملك فما أخذت في حديث أرى أنه لم يسمعه إلاّ سبقني إليه، وربما غلطت في الشيء وقد علمه فيتغافل عني تكرماً!".
وكان عبد الملك يوصي بنيه أن يحفظوا لغة العرب وقال: إنه لا يلي العرب إلاّ من يحسن كلامهم!
وسطر "ابن خلدون" حكمه على عبد الملك فقال: "وعبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة.. وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله، وعدول ابن عباس وابن عمر إلى بيعته عن "ابن الزبير" وهم معه بالحجاز.. وفي موضع آخر قال: "فقد احتج مالك في الموطأ بعمل عبد الملك!".
ولما كانت هذه صفات عبد الملك، فإنه نال إعجاب من رأوه حتى في حداثته، وتنبأ له البعض بما يكون من مستقبله، وأنه سيصل إلى مراتب السيادة.
* * *
وقد بقي في المدينة حتى بلغ أربعين سنة، ثم اضطر هو وأسرته إلى الهجرة إلى الشام في ربيع الآخر عام 64هـ عند حدوث الفتنة، واضطراب الأمر بالشام وظهور عبد الله بن الزبير بمكة والحجاز، وأمره بإخراج بني أمية من المدينة.. فوصل عبد الملك إلى دمشق في التاريخ المذكور رجلاً ناضجاً، كامل الثقافة، كثير التجارب، ولم يكن يدري ماذا يكون مصيره ومصير أسرته في هذا المغترب، ولكن الله وحده كان يعلم أنه بعد ستة أشهر فقط سينعقد مؤتمر "الجابية" ويقرر بالإجماع انتخاب "مروان" أبيه خليفة على المسلمين.. وتقوم بذلك دولة آل مروان بدمشق، ويكون عبد الملك العضد الأيمن، والوزير لأبيه، في أثناء خلافته، فيعينه نائباً عنه في دار الخلافة حينما خرج لفتح مصر، ثم يعقد البيعة بالعهد له عند عودته فلا يلقى إلاّ قبولاً وموافقة من الناس وذوي الحل والعقد، ثم يعينه أميراً على فلسطين ولو أنه لم يبق في ذلك إلاّ مدة قصيرة.
ثم لا تكاد تمضي عشرة أشهر فقط على قرار مؤتمر الجابية حتى يختار الله أباه إلى جواره، ويصبح عبد الملك فيجد نفسه خليفة الإسلام والمسلمين، وصاحب الدولة في دمشق، وذلك بعد سنة فقط وبضعة أشهر من قيامه من المدينة منفياً، يواجه الصحراء الفسيحة.. ويواجه المجهول!
ولم تكن دولة "آل مروان" تتألف، عندما تولى عبد الملك الخلافة في رمضان عام 65هـ، إلاّ من الشام ومصر فقط، أما بقية أجزاء الدولة الإسلامية فقد توزعتها طوائف وأحزاب مختلفة، وكان هناك أكثر من جبهة، وأكثر من خصم يواجهون عبد الملك منذ اللحظة الأولى. كانت الدولة مفككة منهارة أو شبه منهارة، وكان الأعداء المتربصون بها كثيرين وكانت مأساة قتل الحسين بن علي رضوان الله عليه في عهد يزيد بن معاوية قد أدمت قلوب المسلمين وهزت مشاعرهم في كل الأنحاء وكان طبيعياً أن يزيد هذا من حرج الموقف أمام عبد الملك ولو أنه لم يكن له ولأبيه مروان علاقة بهذه المأساة من قريب أو بعيد..
وقد استطاع عبد الملك بشخصيته القوية ومواهبه الفذة أن ينقذ الموقف وأن يقضي على كل الخصوم وأن يعيد للدولة ما كان لها من قوة وما كان لها من بأس، كل ذلك خلال سنوات معدودة.. فما كاد عام 74هـ يحل حتى انتهى النزاع حول الخلافة واجتمعت كلمة الأمة وسمى الناس هذا العام "عام الجماعة" وهو عام الجماعة الثاني بعد عام الجماعة الأول عام 41هـ، حين اجتمعت كلمة الأمة على معاوية بعد تنازل الحسين بن علي..
يقول المؤلف هنا: "ولا شك أن من أهم العوامل التي ساعدت عبد الملك على النجاح، ودعت الناس إلى الالتفاف حوله، والرضى به، والإقبال على مبايعته على خلاف ما كان الحال مع غيره، هو شخصيته ومعرفة الناس أنه يتمتع بالصفات المتميزة التي تؤهله للزعامة، وفي مقدمة ذلك ما عرف عنه من طيب النشأة، وحسن السيرة والخلق واجتهاده في العبادة والعلم.. ولا نعرف ما يدل على أن هذه السيرة قد تغيرت بعد توليه الخلافة، وإن كان وقته قد أصبح مشغولاً بشؤون السياسة والحرب والإدارة أكثر من غيرها ولكن هذه أيضاً خدمة للمسلمين، وعبادة جليلة، بل من أجل ضروب العبادة".
ولما لم يكن لعبد الملك بن مروان من فضل إلاّ أنه أنقذ الأمة من شرور الانقسام وأخطار الحرب الأهلية، لكفاه ذلك من عمل مجيد يؤهله لأن يدرجه التاريخ بين العظماء الذين أسدوا أجل الخدمات لأممهم.. لكن عبد الملك كانت له أعمال أخرى مجيدة -أيضاً- وهي تؤكد أهليته لأن يضعه التاريخ في تلك المرتبة الرفيعة.. فمن ناحية نهض عبد الملك بهمة وحزم ليستأنف الفتوحات التي توقفت طويلاً منذ بدء الفتنة والنزاع الداخلي فأثمرت جهوده أن ضمت إلى الدولة أقطار هامة صار لها شأن في ما بعد في تاريخ العروبة والإسلام، ونعني بها بلاد المغرب بعد أن كاد الروم يضمونها إلى دولتهم.. فعبد الملك بن مروان هو صاحب الفضل في إتمام تحرير هذه البلاد، وطرد الروم منها نهائياً، وفتح الطريق لنشر الإسلام واللغة العربية فيها واستقرارهما، كما أثمرت جهوده أيضاً أن أعادت للدولة -بصفة عامة- كامل قوتها أمام الأعداء فاستردت هيبتها ومركزها، وبذلك أوجد العوامل وهيأ الوسائل للتمهيد لفتح أقطار أخرى كبيرة سيتم ضمها في عهد خلافة ابنه "الوليد" ثم العهود التالية..
ومن ناحية أخرى أمر عبد الملك بتنفيذ إصلاحات داخلية كان من شأنها دعم المقومات التي تقوم عليها الدولة، وأهم هذه الإصلاحات أمران، الأول: تحقيق الاستقلال المالي للدولة وسيادتها الاقتصادية، وذلك بإصدار عملة عربية لها بدل اعتمادها على النقود الأجنبية؛ والثاني: جعل اللغة العربية هي اللغة الرسمية للدولة، وإبطال استخدام اللغات الأجنبية في الدواوين..
إن مكانة "عبد الملك بن مروان" في التاريخ تحددها الجوانب الرئيسية التالية:
أولاً: أنه حفظ الدولة وثبت دعائمها ومكنها من البقاء والاستمرار..
ثانياً: أنه حقق وحدة الدولة، وعمل على تقويتها وجعلها تسترد مكانتها وهيبتها وسيادتها على الأعداء كما كانت أو أكثر.
ثالثاً: أنه وسع حدود الدولة فأضاف إليها أقاليم جديدة، وأهم ما تحقق في هذا الشأن فتوحه في بلاد المغرب، فأصبحت من ذلك الحين جزءاً لا يتجزأ من الدولة العربية!
رابعاً: وضع أساس السيادة الاقتصادية للدولة بإصداره العملة العربية.
خامساً: حفظ أحد المقومات الكبرى للدولة بتحويله جميع الدواوين إلى اللغة العربية.
وقد استمرت الدولة -بعد ذلك- محتفظة بهذه المميزات والمقومات والأسس، حتى بعد أن انتهى عهد الدولة الأموية، وذلك بعد نحو نصف قرن، فإن الدولة العباسية إنما قامت -أيضاً- على هذه الأسس واحتفظت بهذه المقومات، وكانت استمراراً للدولة الأموية من حيث القواعد الجوهرية.. ولولا إقامة عبد الملك للدولة على أسس ثابتة وإعادة قوتها وروحها وتدعيم نظمها لما أمكن لبني العباس أن يقيموا دولتهم ويحفظوها، ويسيروا بها إلى أن أوصلوها الذروة التي بلغتها..
* * *
كان قوي الإرادة، ثابت العزم، يصر على الوصول إلى غايته مهما كان في طريقه من عقبات ومهما حاول المترددون أن يثبطوا من همته، وكانت الشجاعة لديه موفورة.. وهاتان الصفتان -قوة الإرادة والشجاعة- في مقدمة الصفات التي تشترط للقيادة والزعامة، فلا يصلح لقيادة الأمم ورياسة الدول إلا من كانت متوفرة فيه هاتان الصفتان.. وكانت تصاحب هاتين الصفتين -أو هي فرع عنهما- صفة عبر عنها القدماء في تحدثهم عن عبد الملك بأنها: "الحزم" ويقصد بها الثبات في مواجهة المواقف، واتخاذ القرارات، والبت في الأمور دون تردد ولذلك قالوا: "كان معاوية أحلم، وعبد الملك أحزم"، وبذلك شهد له أبو جعفر المنصور.. فقال: "كان عبد الملك أشدهم شكيمة وأمضاهم عزيمة"؛ فإذا أردنا أن نجمع هذه الصفات كلها في واحدة ونجعلها صفة نعبر عن شخصية عبد الملك، لقلنا إن الصفة التي نستخلصها من تصرفات عبد الملك وأعماله وسياسته هي:
القوة.. فالقوة هي الطابع العام لشخصيته: القوة في الإرادة والعزم والسلوك والتنفيذ.. وقد كان الموقف الذي وصلت إليه الأمة والدولة ذلك الوقت يتطلب رجلاً له هذه القوة النفسية، ليحل الأزمات والمشاكل بقرارات نهائية يتخذها وينفذها بقوة الإرادة والإصرار والحزم.. وهكذا تمكّن عبد الملك بن مروان من حل جميع المشاكل التي كانت أمامه.. فحين ترك الدولة لابنه الوليد تركها هادئة، خالية من المشاكل والتعقيدات، فكانت أمور الحكم في عهد الوليد تسير في بحر مستقر وجو هادئ، ولذا أمكن أن تتم في مدته أعمال عظيمة..
وقد كان من نتائج صفة القوة أن عبد الملك كان شديداً في سياسته، وهذه الشدة كانت موجهة -بصفة خاصة ضد المخالفين والعصاة، أو من يحتمل أن يكونوا كذلك.. وقد ظهرت هذه الشدة في معاملته لأهل العراق، فلا شك أن عبد الملك أوصى عامله الحجاج حين أرسله إلى العراق أن ينهج منهج الشدة، وتدل على ذلك خطبة الحجاج.. وكان الأمر يقتضي ذلك لتخاذل أهل العراق عن الدفاع عن وطنهم والدولة ضد الخوارج ودأبهم على العصيان.. لكن الحجاج استمر في هذه السياسة وجعلها قاعدة بعد انتهاء مقتضاها فأدت إلى عكس ما يراد منها..
.. على أننا يجب أن نفرق بين الشدة والقسوة، وبينها وبين الرغبة في التسلط أو النزوع إلى الاستبداد.. فقد كانت شدة عبد الملك بعيدة عن هذا، وإنما كانت نوعاً من الحزم لمنع الفتن أو قمعها وكان رائدها المحافظة على سلامة الدولة وطاعة القانون.. لكننا نرى أن شدة عبد الملك كانت تمتزج بها -بصفة عامة- الحكمة، كما يتجلى ذلك في توصيته للحجاج أن يكف عن العلويين، وأن يجنبه دماء آل أبي طالب.. ولذا لم يحدث في عهد عبد الملك شيء يثير الرأي العام بل إنه أحسن معاملة آل علي وآل العباس وقد كان هذا من بواعث الاستقرار في عهده وعهد ابنه الوليد.. بل إننا إذا تعمقنا في فهم شخصية عبد الملك نتبين أن شدته كانت ظاهرية وأنها كانت مجرد اتخاذ موقف حازم من المخالفين والعصاة لأن الضرورة العملية كانت تقتضي ذلك؛ أي أنها كانت سياسة فرضتها أو تفرضها الظروف والأحوال القائمة.. أما حقيقة شعور عبد الملك فإنه كان يميل إلى العفو والمسالمة والود؛ فنرى من ذلك أنه كان يفرض الأمان على أعدائه قبل بدء القتال وفي أثنائه، ويكره قتلهم.. ثم يعز عليه مصيرهم.. كما حدث مع مصعب وعبد الله ابن الزبير وكما حدث أيضاً من عفوه عن أخيه وأبناء عمرو بن سعيد وأسرته ثم وصله لهم وبره بهم، وأمثلة عفوه عن خصومه كثيرة.
وكانت تصرفات عبد الملك وأعماله وسياسته توحي كلها بأن صاحبها رجل موفور العقل أو "محشو عقلاً" وأنه سديد الرأي تملي عليه تصرفاته الحكمة، وآية ذلك ضبطه لعواطفه وقدرته على العفو ونسيان الماضي بما كان فيه من أذى وإضرار، وآيته إنصافه حتى لأعدائه فلم تحمله خصومته لمصعب أو عبد الله بن الزبير -أو غيرهما- أن ينال منهم.. بل كان يعطيهم حقهم ويثني عليهم..
ومما يشهد بقوة عقل عبد الملك ما حدثت به الأنباء أن عبد الملك كان إذا دخل عليه رجل من أفق من الآفاق قال له: أعفني من أربع، وقل بعدها ما شئت: لا تكذبني فإن الكذوب لا رأي له، ولا تجبني في ما لا أسألك، فإن في ما أسألك عنه شغلاً.. ولا تطريني فإني أعلم بنفسي منك.. ولا تحملني على الرعية فإني إلى الرفق بهم أحوج.
أما من حيث أسلوبه في إدارة الدولة فإنه كان يشرف على الأمور بنفسه.. وكان يُرجع إليه دائماً في الأمور الهامة..
وجاءت الأخبار بما يدل على أن عبد الملك بن مروان كان حريصاً على أن تكون النزاهة من أولى صفات عماله وولاته.. فقد روى المدائني وغيره أنه بلغ عبد الملك أن بعض عماله قبل هدية، فأمر بإشخاصه إليه.. فلما حضر قال له: أقبلت هدية مذ وليتك؟! فقال: يا أمير المؤمنين بلادك عامرة، وخراجك موفور، ورعيتك على أفضل حال.. قال: أجب عما سألتك! قال: نعم قد قبلت..
فقال عبد الملك: "لئن كنت قبلت هدية لا تنوي أن تعوض المهدي لها، إنك للئيم.. وإن كنت قبلتها لتكافئ المهدي من مال المسلمين، أو لتقلد رجلاً من عملك ما لم تكن لتقلده إياه قبل الهدية، إنك لخائن! وإن كنت نويت تعويض المهدي عن هديته من مالك فقد فعلت ما جلب لك التهمة، وبسط فيك لسان معامليك وأطمع فيك سائر مجاوريك، فإنك لأحمق! وإن من أتى أمراً لم يخل فيه من لؤم، أو خيانة أو حمق، لحقيق ألاّ يصطنع (أي لا يستخدم)". ثم عزله.
وكان عبد الملك أديباً عالماً، على أكبر قدر ممكن من الثقافة العربية.. فكان يحب الأدب والشعر، وفي أوقات فراغه يعقد المجالس الأدبية في حضرته.. وسجلت بعض كتب الأدب أو التاريخ هذه المجالس، وبينت كيف أن عبد الملك كان هو الذي يشرف على المجلس، وينتقد ما يلقى عليه من الشعر انتقاداً دل على ذوق أدبي رفيع، وذكاء لمّاح وبراعة في النقد.
وقد رأينا الأدلة على أنه كان يكرم الشعراء ويجزيهم ويحسن صلاتهم.. لكنه كان يكافئ "الممتازين" وليس كل من يفد عليه للسؤال.. ولم يسرف في ذلك، لأنه -كما عبر في مناسبة- كان يرى أن الأموال العامة حق للدولة، ولذا نسب إليه بعضهم البخل ممن لم يظفروا بنواله، لكنه في الحقيقة لم يكن بخلاً، ولكن اقتصاداً وموازنة بين الأمور لتصرف أموال الدولة في الوجوه التي تستحق.
ووصل عبد الملك إلى عام 86هـ والأمور مستتبة والدولة مستقرة، ولم يعد هناك ثورات ولا خلاف، وكل شيء يسير فيها بانتظام.. وفي رمضان من ذلك العام كان قد مضى عليه في الحكم -أي على كرسي الخلافة- واحد وعشرون عاماً، فمرض مرضه الأخير -وكان قد بلغ من العمر اثنين وستين عاماً- ثم كانت وفاته في يوم الخميس للنصف من شوال عام 86هـ.
 
طباعة

تعليق

 القراءات :897  التعليقات :0
 

الصفحة الأولى الصفحة السابقة
صفحة 6 من 49
الصفحة التالية الصفحة الأخيرة

من ألبوم الصور

من أمسيات هذا الموسم

الأستاذ الدكتور عبد الله بن أحمد الفيفي

الشاعر والأديب والناقد, عضو مجلس الشورى، الأستاذ بجامعة الملك سعود، له أكثر من 14 مؤلفاً في الشعر والنقد والأدب.