المثنى بن حارثة الشيباني |
الأستاذ محمَّد فرج |
الرجل الذي يتناوله هذا الكتاب بالحديث، قائد بطل مظفر سجلت له أعماله الخارقة في ميادين الجهاد والفداء، أروع صفحات المجد والخلود في التاريخ الإسلامي. |
"إنه المثنى بن حارثة الشيباني" وكفى به إسماً مدوياً في تاريخ الجهاد والفداء! |
إنه المثنى الرجل الذي آمن عن عقيدة، وآمن بإخلاص وظل طيلة حياته منذ أن أسلم يجاهد في سبيل الله، ويغزو مستميتاً من أجل الدين الذي آمن به أقوى إيمان.. وكان المثنى مثلاً فريداً بين قادة الحرب، وأبطال المعارك: كان "مثلاً" في تفوقه القيادي، وكان مثلاً في الجرأة والإقدام، وكان مثلاً في الحيطة والحذر.. وكان مثلاً في رسوخ العقيدة، وفي صدق المبدأ.. وكان -أخيراً لا آخراً- مثلاً كريماً رائعاً لنبالة الأخلاق! |
إن تاريخ هذا القائد البطل حافل بكل البطولات.. فحسب المثنى بن حارثة الشيباني أنه في بلده حيث يقيم في الخليج العربي، كان أول من تصدى لجيوش المرتدين إلى جانب "العلاء" القائد الذي بعث به الخليفة أبو بكر إلى أرض البحرين لمحاربة القبائل المرتدة.. وكان موقف المثنى من هذه الحرب من أقوى العوامل في نصر المسلمين الحاسم! |
وحسب المثنى أيضاً الدور البارع الذي أداه في حربه لدولة فارس وفي استيلائه على العراق وما قام به بعد ذلك من معارك كان لها شأنها في الصراع بين المسلمين والفرس وكان لها أثرها في الزحف الإسلامي. |
وسنمضي مع صفحات من هذا الكتاب -من سلسلة أعلام العرب- لنرى أي رجل عملاق، شجاع، مؤمن صادق الإيمان كان المثنى بن حارثة: |
يقول المؤلف في مقدمته لكتابه: "المثنى بن حارثة الشيباني موضوع هذا الكتاب شخصية عربية أصيلة ممتازة، كان له دور كبير في حياة العرب والإسلام، دور مليء بالبطولات عامر بالأمجاد..". |
ويتناول في الفصل الأول البيئة التي نشأ فيها المثنى، فيتحدث عن قومه "بني شيبان" وينوه في بحثه هذا بما كان لقبيلة شيبان من سطوة وبأس وسؤدد بين القبائل العربية جمعاء.. وكان لهذه البيئة التي عاش فيها المثنى، وترعرع بين رجالها الأثر الفعّال فيه؛ في إنماء روحه، ونشوئه على الإيمان بالمبدأ والتصلب بالعقيدة والجود بالنفس.. والصدق والعزيمة والصبر والجلد والتحمل والشجاعة والإقدام والقوة والتغني بضروب الفروسية، والاستماتة في الحرب.. هذه الصفات أحس بها الكثيرون من بني شيبان، ولمسوها بصورة واضحة في المثنى فجعلوا منه سيداً لهم، والتفوا من حوله، وأصبحوا في إشارة بنانه.. قذفوا بأنفسهم في المهالك من ورائه، فكتبوا لأنفسهم ولزعيمهم وقائدهم المثنى، أروع صفحات المجد والبطولة في التاريخ.. |
وكانت منازلهم تبدأ من اليمامة إلى البحرين إلى أطراف سواد العراق؛ في هذه المنطقة من الجزيرة العربية عاش بنو شيبان. كانت هذه المنطقة قريبة من أرض الفرس الذين أقاموا الحاميات للمحافظة على بلادهم ولدرء الأخطار التي قد تثيرها القبائل العربية ضدهم. |
ويسجل التاريخ لبني شيبان موقفهم التاريخي في موقعة "ذي قار" التي دارت رحاها ضد الفرس؛ فقد زلزلت سيوف بني شيبان ورماحها تاج كسرى، وقضى رجال بني شيبان وأبطالهم على جموع الفرس.. حتى إن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه خلال حديث له عن ذي قار: "إن هذا لأول يوم انتصفت فيه العرب من العجم، وبي نصروا".. في هذه البيئة عاش المثنى، واستطاع أن يسجل لنفسه في التاريخ العربي صفحات بطولية مجيدة.. ونحن لا نبالغ في قولنا هذا، إذا عرفنا أن اسم المثنى ارتبط بيوم هام من أيام العرب هو يوم "الفرات"، وكان انتصاره في يوم الفرات أحدوثة الزمان حتى أصبح يوم الفرات حدثاً تاريخياً يذكر به العرب أهم أحداثهم وتواريخهم. |
وينتقل المؤلف إلى الفصل الثاني، وفيه يتحدث عن إسلام بني شيبان في عام الوفود. فقد خفق قلبها بالإسلام وواتتها الفرصة التي كانت تنتظرها منذ زمن، فسيرت من ربيعة وشيبان إلى مكة فأسلموا، وأقرهم الرسول على ما بأيديهم، ولم يؤاخذهم على ما فعلوه قبل اعتناق الدين الحنيف. |
وكان المثنى واحداً من أفراد هذا الوفد.. هو إذن كان من الأولين الذين آمنوا بهذا الدين، والذين انتظروا الفرصة المؤاتية للدخول فيه.. هو إذن قد دخل الإسلام عن إيمان وثقة، وذكر بعض المؤرخين أن سلمى بنت حفصة زوج المثنى كانت معه حين قدم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهي بذلك تكون صحابية.. وهناك اتجاه آخر يخالف هذه الرواية يشير إليه المؤلف وهو أن الرسول صلوات الله عليه بعث في العام الثامن الهجري العلاء بن الحضرمي إلى أهل البحرين يدعوهم إلى الإسلام أو إلى دفع الجزية، وأن العلاء حين قدم إلى البحرين وأوضح مهمته لأهلها أسلم الكثيرون إلاّ المجوس واليهود الذين قبلوا دفع الجزية.. |
ويمضي المؤلف فيشير إلى حروب الردة وما كان من شأنها في بلاد البحرين وما انتهت إليه من انتصار المسلمين الحاسم في تلك الحروب على ما يعرفه التاريخ، ويهمنا هنا في هذا العرض الموجز أن نشير إلى دور المثنى بن حارثة الشيباني في هذه الحروب كما يرويه المؤلف: |
ترى ماذا كان موقف المثنى في هذه الحروب؟ |
هل ارتد وبقي على ردته؟ هل ارتد ثم عاد مع من عاد إلى الإسلام..؟ هل بقي على الإسلام ولم يرتد أبداً؟ يقول المؤلف: "إن الإيمان القوي الراسخ في صدر المثنى هو الذي حدد موقفه من الردة والمرتدين!". |
فقد أبى عليه هذا الإيمان أن يعود أدراجه إلى الجاهلية، وهو الذي آمن عن عقيدة، وعن شعور وعن ثقة في أن الإسلام هو الدين الحي الذي بعث به الله تبارك وتعالى إلى الناس جميعاً، وجعله خيراً للبشرية كلها، ولهذا رفض المثنى كل دعوة إلى الردة في صدق وإصرار وعزيمة.. ولم يكن موقفه من الردة سلبياً، وإنما اتخذ موقفاً إيجابياً؛ فقد صمم على أن يدافع عن الدين الذي آمن به ودخل فيه، ولهذا جمع الجموع وانضم بها إلى جيش العلاء بن الحضرمي ودعا أهله من بني شيبان ليبقوا على دينهم وليخرجوا مع الخارجين لمحاربة المرتدين، ولصيانة الدين.. وما إن تم للعلاء الانتصار على المرتدين في خندقهم حتى أسرع المثنى على رأس جيش كبير العدد ونشر جنده على ساحل البحر ليصد المنهزمين الفارين عن ركوبه، وفتك بهم فتكاً ذريعاً، ويرجع إليه فضل الانتصارات الكبيرة التي أحرزها المسلمون على طول خليج البصرة.. واستطاع المثنى أن يستولي على القطيف، وأن يصل بقواته إلى دلتا الفرات مهدداً دولة الفرس، التي كانت تسند القوات المرتدة وتؤيدها وتعينها على ردتها.. وتمكّن المثنى من مقاومة دسائس الفرس ومن القضاء على أنصارها من مختلف القبائل. |
ولقد كان اتصاله بأرض العراق ودعوته هناك إلى الإسلام بداية ومقدمة لفتح العراق وضمه إلى الدولة الإسلامية.. |
ثم ينتقل المؤلف إلى الباب الثالث من الكتاب ليتحدث فيه عن أرض السواد والحيرة وغارات المثنى بن حارثة الشيباني.. |
* * * |
وكان السواد -وهو أرض العراق- مستعمرة فارسية رغم أن كثيراً من العرب يعيشون فيها، لهذا كانوا يرونها عربية يجب أن تكون تابعة للعرب دون الفرس.. ومن هنا بدأ التفكير جدياً في إنقاذها من أيدي الفرس.. وشغل أمر إنقاذها القائد العربي المثنى بن حارثة، فأخذ يبحث ويدرس الوسائل التي تحقق أمله الكبير في ضم أرض السواد إلى سلطة العرب، ونشر الراية العربية فوق هذه الأرض.. |
تتبع المثنى أحوال العجم، وتنسم أخبار العرب القاطنين في أرض السواد، وعلم من دراساته لأحوال العرب أن العجم يسومونهم الأذى.. وقد استضعفوا فشنوا عليهم الغارات مستغلين في ذلك ملوك الحيرة الذين يخضعون لسلطانهم.. وعرف المثنى أن العرب يقاسون من ظلم العجم الكثير.. وكان مما عرفه أيضاً ذلك الاضطراب العنيف الذي يعيش فيه العجم داخل بلادهم.. إذن فالبلاد التي يقف المثنى على أبوابها بلاد مزعزعة الأركان، مهلهلة الجوانب، لا ضابط فيها ولا رابط ولا منظم للشؤون.. أهلها مختلفون شيعاً وأحزاباً وفيها يعيش الناس في ذلة وهوان.. وقفز إلى ذهن المثنى هذا السؤال: لماذا لا يقتحم أرض السواد بمن تبعه من بني شيبان؟! إن تحت يديه ثمانية آلاف مقاتل من خيرة الأبطال. فلماذا لا يخرج بهم إلى أرض السواد فيمد يده إلى العرب المقيمين هناك يرد لهم اعتبارهم ويرتفع بنفوسهم إلى مراتب الكرامة والرضى.. وينشر بينهم مبادئ الإسلام الخالدة، ويأخذ بأيديهم إلى حياة أفضل تليق بهم كأفراد في العائلة الإنسانية؟! |
* * * |
بعد أن أسهم المثنى في القضاء على المرتدين في البحرين تقدم إلى القطيف وهجر.. وبلغ مصب دجلة والفرات، ومن هناك بدأ غاراته المتعددة على إحدى مدن الفرس العتيقة واستطاع أن يدخل المدينة.. ثم اتجه المثنى إلى مدينة "الأبلة" وكانت بها قوة فارسية كبيرة فانتصر عليها، ووقع في يده منها أسرى كثيرون.. وعطف المثنى بعد ذلك على الحيرة، ووقعت مناوشات كبيرة بينه وبين سكانها، وكانت شجاعته وقوته، وبطولة رجاله من العوامل الكبيرة التي أثارت روح النفور والتمرد في القبائل العربية.. |
ويتساءل خليفة المسلمين أبو بكر الصديق -رضوان الله عليه- بعد أن بلغته أخبار المثنى: |
من هذا الذي تأتينا أخبار وقائعه قبل معرفة نسبه؟ ويجيبه قيس بن عاصم بن سنان: "هذا رجل غير خامل الذكر، ولا مجهول النسب ولا ذليل العماد.. هذا المثنى بن حارثة الشيباني". ويسرع المثنى إلى المدينة حيث التقى بالخليفة أبي بكر الذي كان قد عرف الكثير عنه قبل أن يلقاه.. ونقل المثنى إلى أبي بكر صورة واضحة المعالم عن أرض السواد.. أخبره بتفاصيل غاراته ووقائعه وقدم له وصفاً للحالة الداخلية لبلاد الفرس، وجعله يقف على أمورها، واضطراب حيل دولتها، وانهيار كل قوة أو منعة فيها.. وما زال المثنى يهون على الخليفة أمر العراق ويغريه ببلاد فارس، هذا فوق أن المثنى طلب من الخليفة أن يقوم بتأمين العرب من أهلها، وحمايتهم من شرورها.. وعاد المثنى إلى بلاد الفرس وتولى قيادة جيشه، وأخذ العدة للقيام بالدور الخطير الذي ألقي على عاتقه، وأحس بالمسؤولية الضخمة التي أصبحت في عنقه.. ورأى أبو بكر أن يمد المثنى بقوات وإمدادات تساعده وتسانده وتشد من أزره ليتحقق في بلاد الفرس نصر سريع عاجل، فأصدر أوامره إلى "خالد بن الوليد" بأن يجمع بقية جنده في اليمامة، وأن يسير بهم إلى العراق على أن تكون له القيادة العليا بطبيعة الحال، وفي ذات الوقت أمر أبو بكر "عياض بن غنم" بالسير إلى دومة الجندل، فإذا ما أخضع أهلها المتمردين تحرك شرقاً إلى الحيرة لمعاونة خالد في مهمته. |
وعندما تحرك خالد كان تحت إمرته عشرة آلاف مقاتل، واستقبله المثنى ومعه ثمانية آلاف وأمده الخليفة بالقعقاع بن عمرو التميمي. |
وعندما استقر خالد في أرض العراق كانت تحت إمرته رجال أبطال ميامين باعوا أنفسهم في سبيل الإسلام، وخلصت نيتهم للدين الذي هيأ الله لأهله أسباب النصر.. ومن هؤلاء الرجال: |
المثنى بن حارثة، مذعور بن عدي العجلي، سويد بن قطبة الذهلي، عاصم بن عمرو، عدي بن حاتم الطائي، القعقاع بن عمرو التميمي.. وكان أول اشتراك للمثنى في الحرب تحت قيادة خالد في المعركة التي دارت بين جيوش المسلمين وجيوش الفرس بقيادة هرمز.. وكان هرمز هذا من أسوأ أمراء الفرس معاملة للعرب حتى بلغ من حقدهم عليه أن جعلوه مضرب المثل في الكفر والخبث، وكانوا يقولون: "أخبث من هرمز" و "أكفر من هرمز".. وكان هرمز ينازل العرب في كل مكان براً وبحراً.. |
وانتهت المعركة بانتصار المسلمين وقتل هرمز.. وفر جيشه فأمر خالد المثنى بمطاردة الفارين، وخالد كقائد عسكري يدرك قيمة المطاردة بالنسبة للجيش المنتصر.. وأيضاً بالنسبة للجيش الفار. ويعلم أن وقعها على الجيش الفار أليم؛ إذ يزلزل كيانه، ويحطم معنوياته ويفقده الثقة في نفسه وفي قادته.. ومن أجل هذا رأى خالد أن يقوم بالمطاردة رجل قوي عليم بفنون الحرب وأصولها ليستطيع أن يحقق الغرض من المطاردة، ولم يجد في قادته من يرتفع إلى مستوى القوة والحكمة والعلم بشؤون الحرب سوى المثنى بن حارثة فأسند هذا الأمر وهو مطمئن إلى تنفيذه بالصورة التي يريدها، وبالنتيجة التي يهدف إليها.. |
أسرع المثنى يلاحق المنهزمين الفارين في اتجاه المدائن.. واستمر في جهاده الكبير العظيم تحت قيادة خالد، فانتقل معه من موقعة إلى أخرى، ومن قتال إلى قتال، لم تضعف روحه، ولم تهن عزيمته، وإنما ظل متمسكاً بمبادئه، قوياً في إيمانه عظيماً في قتاله، حتى توغل الجيش الإسلامي في بلاد الفرس.. وأدى المثنى دوراً كبيراً خطيراً في هذه المعارك كلها، وكان له فضل في النتائج التي انتهت إليها.. |
ولقد قدر خالد له جهده، وقدره أيضاً أبو بكر الصديق، حتى إنه حينما أمر خالد بن الوليد بالتحرك إلى الشام لمساعدة الجيوش الإسلامية التي كانت تواجه جيش الروم في اليرموك، وأمر بأن يتولى المثنى قيادة الجيش الإسلامي في العراق.. |
وعاد المثنى قائداً للجيش الإسلامي في أرض العراق.. وبدأت منذ هذه اللحظات أروع صفحات المجد والبطولة للقائد العربي الهمام.. ويتحدث المؤلف في البابين الرابع والخامس من كتابه عن المعارك التي أدارها المثنى بن حارثة تحت قيادته في العراق وما أبدى فيها من بطولات خلدها له التاريخ بحروف من نور.. إلى أن توفي بعد إصابته في واقعة الجسر، وبلغ سعد بن أبي وقاص نبأ وفاته فترحم عليه وأوصى أخاه "المعنى" بأهل بيته خيراً.. |
ثم يتحدث المؤلف في الباب السادس عن قيادة المثنى.. فيقول: "والمثنى بن حارثة الشيباني واحد من القادة العرب العسكريين، كانت له جولات واسعة المدى في مجال الحرب والقتال، وكان له باع طويل في المجال العسكري، وكتب لنفسه صفحات خالدة، وسجل مواقف طويلة، واستطاع أن يرقى سلم المجد الحربي في سنوات قليلة، وأن يحتل مكان الصدارة بين القادة العسكريين، وأن يبرز اسمه كمحارب فذ وقائد كفء في الميدان، وأن يحرز انتصارات تاريخية برغم أنه كان يقاتل بجيوش قليلة العدد والعدة جيوشاً تفوقها في الأفراد والسلاح تقف من ورائها أمم ذات مجد وحضارة وقدرات. |
ويتساءل المؤلف وهو يتناول في بحثه "المثنى وفن القيادة": ما هي الصفات التي جعلت من المثنى قائداً ممتازاً له في تاريخ الحروب سجل مشرف، مشرق؟! |
ثم يقول: إن الباحث عن سر النجاح الكبير الذي أحرزه المثنى يجد أنه يكمن في مدى إيمانه العميق.. فمما لا شك فيه أن قوة الإيمان هي التي تدفع إلى النصر، والمتتبع لتاريخ الحروب يلمس أن النصر كان حليف من هم أقوى إيماناً وأثبت عقيدة! |
ولقد دخل الإيمان قلب المثنى وملأ نفسه منذ سمع بدعوة الرسول الكريم -صلوات الله عليه- حين خرج ومعه علي بن أبي طالب وأبو بكر الصديق ليعرض بنفسه على قبائل العرب دعوته؛ فقد نزل الرسول وصاحباه بمجلس عليه السكينة والوقار يضم كبار رجال بني شيبان، ومن بينهم المثنى بن حارثة، وتحدث إليهم الرسول الكريم فقال: "أدعوكم إلى شهادة أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأني رسول الله وأن تؤوني وتنصروني حتى أؤدي عن الله الذي أمرني به.. فإن قريشاً قد تظاهرت على أمر الله وكذبت رسوله واستغنت بالباطل عن الحق.. والله هو الغني الحميد". |
واستمع القوم إلى الرسول الكريم وهو يتلو بعض آيات القرآن واستمع إليها معهم المثنى، وتجاوبت نفسه مع الدين الجديد، وتفهم في عمق رسالته.. ووقع القرآن في نفسه موقعاً حسناً، ووجد أن كلمة الحق تدوي في أرجائه، فاتجه بجوارحه وأحاسيسه إلى الرسول تلتقط أذناه كل كلمة حتى إذا ما انتهى الرسول من عرضه قال له المثنى: "قد سمعت مقالتك واستحسنت قولك يا أخا قريش وأعجبني ما تكلمت به". وتمر الأيام وإذا بالمثنى يجد دين محمد صلى الله عليه وسلم في اتساع، ورجاله في كثرة، وقريش والقبائل الأخرى تنهزم مرة وراء الأخرى وتعجز عن صد الدين الجديد.. فيقع الإسلام في قلبه ويستجيب له، ويؤمن به إيماناً عميقاً يمنعه حين يرتد قومه من أن يرتد.. وإنما يظل على دينه وينضم إلى جيوش المسلمين التي جاءت تحارب المرتدين في البحرين بقيادة العلاء الحضرمي، ويعاونه معاونة صادقة في القضاء على المرتدين.. ثم لا يقف عند هذه الحدود، وإنما يسير على رأس جيش ينشره على طول ساحل البحر ويتلقى المنهزمين ويصدهم ويفتك بهم حتى تمتد انتصاراته على طول خليج البصرة حتى هجر، والأراضي الشمالية، والقطيف، وحتى تبلغ قواته دلتا الفرات... |
وهكذا دفعه الإيمان القوي الذي كان راسخاً في صدره إلى إعلاء كلمة الله، كما دفعه تفكيره إلى ناحية أرض السواد، فتقدم إليها مغيراً عليها يعرض الإسلام على أهلها.. والإيمان هو الذي جعله يلقي الرعب في قلوب أهل السواد فتنهار معنوياتهم، وتضعف قواهم، ويستسلمون حين يشتد اللقاء، ويعنف القتال، وهو الذي جعله ينتقل إلى الخليفة في المدينة يعرض صورة لوقائعه، ويرغبه في غزو العراق، ويهوّن، عليه أمرها، ويغريه ببلاد الفرس.. فلما استجاب له، وسير إليه خالد بن الوليد، رضخ تحت تأثير إيمانه لأوامر أبي بكر، فعمل تحت إمرة خالد -وقد كان قائداً للجيش قبل مجيئه- كجندي بسيط متواضع، وهو الذي جعله يواجه هرمز في قوة وصبر بقواته الضئيلة، وهو الذي جعله يقاتل جيشاً يفوقه عدداً وعدة في بابل وفي غيرها من المعارك، فينتصر انتصاراً ساحقاً، وينقل راية المجد من أبطال الفيل إلى أبطال الخيل والجمال.. |
إن الثقة بالنفس والاعتماد عليها من أهم عناصر تكوين شخصية القائد، فمتى وجدت الثقة بالنفس أصبح من السهل الاعتماد عليها في كل عمل ممكن.. والثقة تتولد نتيجة للعلم والمعرفة والمقدرة.. والمثنى بن حارثة حين فكر بالقيام بغاراته ينتصر في هذه العمليات التي حمل نفسه عبء القيام بها.. ومما لا يختلف فيه اثنان أن الناس يثقون بمن يثق بنفسه.. ولهذا كان واضحاً أن جند المثنى قد وضعوا ثقتهم الكبيرة به.. وليس أدل على صحة ذلك من أنهم حاربوا معه وبجانبه ولازموه في معاركه المختلفة، وغاراته المتعددة، وشاركوه متاعب المعركة وجهدها، وقاسموه حلوها ومرها. |
وكان المثنى يتميز بصفة إنسانية كبيرة، فقد كان يعمل في صمت، إيماناً منه بأن العمل في صمت هو سبيل النجاح.. من هنا ظهرت حقيقته للناس فقدروا كفاءته واعترفوا بشخصيته ومقدرته.. فالمثنى الذي انتصر في جميع معاركه لم تمتلئ نفسه بالغرور، ولم يتعال على جنده، وإنما عاش معهم كواحد منهم.. حتى أحس جنده بأنه رجل صادق الحس، حسن البصيرة، جيد التقدير، يحكم على الأمور بفهم لا يأخذ بالظاهر والقشور.. يضبط نفسه ولا تثيره الصغائر، ولا تفقده الكبائر الصواب.. |
يقول المؤلف: "وكان المثنى محرر النفس من التعاظم والكبرياء والغطرسة، والمظاهر الكاذبة.. وكان يبدو أمام الناس على حقيقته فلا يلبس غير ثوبه، ولا يبدو في مظهر ليس له، ولا يدعي القول.. ولا يعطي لنفسه من التصوير ما لا يستحق..". |
كان "المثنى" من القادة العظماء الذين انقطع نظيرهم وقد تفرد بخلال لم تتوفر في غيره؛ كالمقدرة والكفاءة والخبرة بأساليب الحرب.. ومن أهم ما يتميز به الإقدام.. وقد دفعه الإقدام إلى أن يوسع نطاق الفتح، وأن يستثمر الفوز بدحر الأعداء، ويرمي بسهم المسلمين مملكة الأكاسرة.. وما زال المثنى يقاتل الفرس، ويخضع الخارجين من أهل العراق ويثبت دعائم الإسلام حتى أصبحت بلاد الفرس جزءاً من الأمة العربية تمثل قطاعاً هاماً من قطاعاتها.. |
وكان المثنى يشارك جنوده مشاعرهم وأحاسيسهم.. وأفراحهم وأتراحهم.. وكان يتجنب العناية بمصالحه وراحته على حساب الآخرين.. وكان يثير الحماس في نفوس جنده ويدفعهم إلى التعلق بالنصر مهما كانت ظروف المعركة.. وكان متفائلاً يفكر في النجاح لا في الفشل.. ينظر إلى الأشياء بعين الأمل، لا بعين اليأس والقنوط.. يفكر في النصر دون الهزيمة، وفي المبادءة بالهجوم دون الدفاع.. كما أن عاطفته لم تؤثر في تصرفاته أو أفعاله، وإنما كان يزن الأمور ويقدر الأشياء ويؤمن بالعدل والمساواة.. ولم يفقد سيطرته على مشاعره وعواطفه.. ولم يأخذ الأمور بالمظاهر.. وإنما كان يتعمق في حقائقها.. ويبحث عن أصولها!! ولقد اهتم المثنى اهتماماً بالغاً بنفسية رجاله حتى أصبحوا قادرين على مواجهة الأحداث بما فيها من مخاطر.. قادرين على خوض المعارك والعيش في أهوالها دون أن تهتز أيديهم وهي تحمل سيوفهم أو ترتعد قلوبهم وهم يتعرضون لمفاجآت المعركة وما أكثرها.. |
|